اســتـــراحــة الـمحــارب

استراحة عقلية و فكرية لمحارب.. فى دنيا الله .. يبحث عن الحكمة ..

من أنا

صورتي
رحالة فى دنيا الله .. من أرض الى أرض .. اسمع و انصت ... و اعقل ..لعلى اعتبر أبحث عن الحكمة .. فأين أجدها؟

زوار الاستراحة

المتابعون

ابحث فى الاستراحة

بحث مخصص

فقه المصالح والمفاسد

د. عبد العزيز القارئ

المقالة تحتاج الى التحاور منكم

إن الله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها(1 ).
فقاعدة : ( جلب المصلحة ودفع المفسدة ) إذن هي مدار الشريعة كلها، فمن لم يفقه هذه القاعدة فلا علم له بالشريعة ؛ لأن الشريعة إنما جاءت لجلب المصالح للناس ولدفع المفاسد عنهم، فما أمرت بشيءٍ أو أباحته إلا وفيه مصلحة محققة، ولا نهت عن شيءٍ ومنعته إلا وفيه مفسدة محققة، وقد يكون في الشيء مصالح ومفاسد، ولكنها تمنعه لرجحان المفسدة، أو تبيحه لرجحان المصلحة.
ونصوص الكتاب والسنة حافلة بما يبين ذلك، فشريعتنا الإسلامية والحمد لله ليست جامدة، وأحكامها ليست طلاسم لا يعقل معانيها أحد، ولا يعلم عللها فقيه ؛ ولذلك كان معظم الأحكام إنما ثبت بالقياس، ويثبت بالقياس في كل عصر حيثما تتجدد الحوادث، ولو كنا مأمورين بالتوقف عند ظواهر النصوص فلا نتجاوزها بالاستنباط إلى عللها ومعانيها إذن لوقع الناس في الحرج ؛ لأن النصوص محدودة، والحوادث غير محدودة.
قال تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ ) [ 157 / الأعراف ]. فها هنا علَّلَ لتحليل الحلال بأنه من الطيبات ؛ أي الأشياء النافعة، و علَّلَ لتحريم الحرام بأنه من الخبائث، والخبيث هو الضار، يُفهَم هذا التعليل من الوصف.
ومن أبلغ الأمثلة على الموازنة بين المصالح والمفاسد قوله تعالى في الخمر والميسر : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) [ 219 / البقرة].
المراد بالإثم هنا الضرر لأنه ذُكر في مقابل النفع ؛ فإذن حُرِّمت الخمر والميسر لغلبة الأضرار فيهما على المنافع.
وهكذا كل شيءٍ أو فعلٍ أو قولٍ فيه مصالح وفيه مفاسد ينبغي فيه الموازنة بينهما، والحكم بناءاً على نتيجة هذه الموازنة.
وهذا أمر لا يعقله إلا العالِمُون ؛ فيحتاج إلى فقهاء عقلاء حكماء، وإلا فكم من مصلحةٍ توهَّمَهَا أناسٌ وهي مفسدة ؛ فلا ينبغي أن يتصدى للحكم في ذلك من لا بضاعة عنده من فقه الشريعة، ولا من لا قريحة عنده من الفقهاء.
ومن يشتغل بالفقه درجات :

أولها : حامل الفقه غير الفقيه ( الرواة ).
ثانيها : حامل الفقه الفقيه ( الفقهاء ).
ثالثها : حامل الفقه الأفقه ( أهل الاستنباط ).

والفقه أنواع : منه فقه الأحكام، ومنه فقه التطبيق، ومنه فقه السياسة الشرعية.

وليس كل من فَقِه الأحكام يفقه كيف يُنَزِّلها في مواقعها، فهذا فقهٌ برع فيه بعض الفقهاء، وليس كل فقيه في الأحكام وفي التطبيق يتقن الفقه السياسيّ، وليس كل من يتقن الفقه السياسيّ نظرياً يتقنه عملياً، فالفقيه السياسي أَنْدَرُ من الكبريت الأحمر، وأَنْفَسُ من الذهب الإبريز.
من أعظم ميزات الفقيه السياسي أنه ذكي، ذو بصر نافذ وبصيرة وقّادة، الفقيه الساذج لا يتعدى بصرُه أرنبةَ أنفه، والفقيه السياسي يقرأ ما وراء السطور، ويتعدى بصره الحاضر إلى المستقبل، ويُقدِّر العواقب، ويعرف أحوال الناس، ويواكب التطورات، ويحسب حساب المتغيرات، فهو لذلك لا يُخدَع، ومجالُ السياسة مجالُ خداعٍ ومكرٍ..
والآن ونحن في عصر بَلَغَ فيه ( المكر السياسي ) ذروته، يُدَار فيه العالم بخطط " استراتيجية " مُحْكَمَةٍ، يتظافر عليها دراسةً وتحليلاً وتخطيطاً أَبَالِسَةٌ محَنّكون، ويساعدهم في ذلك هذا التطور (المعلوماتي ) الهائل، وتنفذ تلك الخطط بدقة بالغة وعلى مراحل مدروسة..
قبل عشرات السنين وهم يدربون قواتهم على القتال في أجواءَ صحراويةٍ تشبه أجواءَ الصحاري العربية في الخليج وفي الجزيرة العربية وفي العراق، وهاهم وقد وصلت قواتهم إلى هذه المناطق الهامة من العالم..
في مثل هذه الأزمنة نحن بأمس الحاجة إلى الفقيه والأفقه، فالرواة لا يُغْنُونَ شيئاً، ونحن بأمس الحاجة إلى العقليات الفقهية السياسية الذكية، أما العلماء السَّاذجُون فلا يُغْنُونَ شيئاً، وأما الوعاظ والخطباء الفارغون فإن كثرتهم من علامات الفشل..
ويا ليت في الأمة فقيهاً واحداً ذا عقليةٍ " استراتيجية " في السياسة الشرعية ؛ إذن أكون أول من يبايعه خليفةً على المسلمين، وقائداً لهم غيرَ مُنَازَع.
إن المصالح العليا للمسلمين في كل زمان ومكان، ومن باب أولى في زماننا هذا، والتي يجب أن تكون أهدافاً " استراتيجية " للدعوة الإسلامية، وللحركات الإسلامية، ولكلّ نشاطٍ إسلاميّ، هي الآتي :
1) عبادة الله تعالى بحريةٍ، دون عائق أو مانعٍ، بإقامة الصلوات، وغيرها من الشعائر الدينية، وبالتزام الآداب الإسلامية.
2) تَمَكُّن المسلمين مع ذلك من تطبيق الأحكام الضرورية من الشريعة الإسلامية كالأنكحة وما يتبعها من مسائل الطلاق والرضاع ونحو ذلك، وتمكُّنُهم من الدعوة إلى الإسلام.
3) تمكُّنُ المسلمين من تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في سائر مجالات حياتهم ومرافق مجتمعهم، وتَمكُّنهم من الدعوة إلى الإسلام.
4) دولة إسلامية شرعية يستظلون بظلها ويعيشون تحت حمايتها، تحكم بشرع الله وتسوس أهلَ قُطْرِها به، وتُعِدُّهم للجهاد.
5) خلافةٌ إسلامية يجتمع المسلمون جميعاً تحت رايتها، ويدينون لها بالطاعة وترفع علمَ الدعوة والجهاد.
هذه المصالح العليا، أو الأهداف " الاستراتيجية " مُرَتَّبةٌ تصاعدياً، بمعنى : أنه ما لم يتحقق الهدف الأول والثاني فلا معنى للمطالبة بالباقي والسعي من أجل تحقيقه، وبمعنى أن الاهتمامَ الأشدَّ والأولَ ينبغي أن يكون لهما، وبمعنى أنه في بعض الظروف أو في بعض الأمكنة إذا كان لا يتسنَّى غيرهما، وكان السعي من أجل الأهداف الباقية يعطلهما فإن من الحمق والسفه والجهل بالمصالح والمفاسد التفريط بهما.

كثيرون يخطئون في سُلَّم " الأولويات " فيضيّعون مصالح الأمة، فمن أجل تحقيق الهدف الأخير أو الذي قبله يتسبّبُون بضياع جميع الأهداف والمصالح العليا، ويجلبون الخرابَ والدمارَ وانتهاك الحرمات على المسلمين.
التّدرُّج في تحقيق تلك المصالح العليا يُستفاد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، ومن طبيعة الشريعة التي نزلت بالتدريج.
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن هذا الدين متينٌ فأَوْغِلُوا فيه برفقٍ) وفي رواية : ( إن هذا الدين متين فأوْغِلْ فيه برفقٍ فإن المُنْبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)(2 ).
وهذه الرواية وإن لم تصح فإن معناها صحيح دلت عليه نصوص أخرى ثابتة، ومعناها كما قال ابن الأثير : " يريد أنه بقي في طريقه عاجزاً عن مقصده لم يَقْضِ وطرَهُ وقد أَعْطَبَ ظهره " (3 ).

ونذكر أمثلة تطبيقية من هذا الفقه :
في البلاد الغربية اليوم ( أمريكا وأوروبا واستراليا ) وغيرها أعداد كبيرة من المسلمين يمثلون جاليات تُعَدُّ بالملايين، وهم أقليات وسط بحر خِضَمّ من مجتمع كافرٍ ؛ لكنه يتيح لهم مساحات من الحرية قد لا تتوافر لهم في أماكن أخرى، فلهم الحرية في ممارسة شعائرهم الدينية، بل وفي تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على أنفسهم في ( الأحوال الشخصية ) كما يسمونها، بل وتُتَاح لهم الفرصة لممارسة شيءٍ من الأنشطة السياسية كتشكيل أحزاب أو مجالس تُمَثِّلُهُم في ( البرلمان ) أو لدى السلطات الحكومية ؛ لكنهم لا يُتَاح لهم أكثرُ من ذلك.
فإذا وُجد من يُطالب بإقامة دولةٍ إسلامية هناك، أو يدعو لإقامة الخلافة، أو يدعو للجهاد، فما بالك بمن يمارسه، ينبغي أن يُضْرَبَ على يده لحمقه وسفهه، ولأنه بجهله سيُضيِّع على المسلمين جميع مصالحهم العليا المذكورة من أولها إلى آخرها، وربما هدّد وجودهم وسلامَتَهم.
فإذا طُولِبْنا بدليل شرعي على هذا التأصيل، ولم يُكْتَفَ فيه بالبداهة العقلية فإنا نُذكّر هذا المُطالِب المسكين بوضع المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحبشة لما هاجروا إليها في المرتين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وعاشوا في كنف النجاشي ملك الحبشة وتحت حكمه وسلطانه وهو نصراني – قبل أن يسلم – ولم يَضِرْهُم ذلك فهو ملك عادل
لا يُظلَم عنده أحدٌ كما قال صلى الله عليه وسلم (4 ).

المثال الثاني : في عام 1406هـ زُرْتُ " سنغافورة " وكان في استقبالي أحد الدعاة من أهل البلد، من خريجي الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وكان من ضمن البرنامج زيارة مدرسةٍ واسعةٍ للمسلمين، فيها جميع المراحل من روضةِ الأطفالِ إلى الثانوية، وكان موقعها في وسط الحي التجاري حيث تحيط بها ناطحات السحاب من كل جهة، وعجبت من ذلك كيف أمكنهم شراء هذه الأرض في منطقة يُقَدَّر المتر فيها بما لا قِبَلَ لهم به، فأخبرني الداعية بأن الأرض من أوقاف المسلمين، وبأن الحاكم خيّرهم بين بيع هذه الأرض بثمن سخي، أو يبنونها وينتفعون بها ؛ إذ لا يصح أن تبقى أرضاً مهملة لا يُنتفع بها وهي في هذا الموقع، يقول الداعية : فاخترنا بناء هذه المدرسة المتواضعة عليها فإذا بالحاكم يساعدنا على ذلك بأن اقتطع من رواتب الموظفين المسلمين نسبة لهذا المشروع وساعدنا على جمع التبرعات من باقي المسلمين وسهّل لنا الإجراءات الرسمية حتى أتممنا هذا البناء..
وجمعوا لي المدرسين والمدرسات في قاعة المحاضرات، المدرسات جلسن في آخر القاعة وكن مسلمات مؤدبات محجبات، وألقيت فيهم كُلَيْمَةً بينت لهم فيها أهمية الرسالة التي يؤدونها، وهي احتضان ناشئة المسلمين في هذا البلد وتعليمهم دينهم وتربيتهم على آدابه وشريعته، وعندما فَتَحْت المجال للأسئلة، فُوجِئْتُ بمُدَرِّسَةٍ تسأل عن السبيل لإقامة حكومة إسلامية في "سنغافورة "، ولما سألت مرافقي الداعية السنغافوري المُحَنَّك عن سبب هذا السؤال أجابني بأنه تدور الآن مثل هذه الأفكار بين شباب المسلمين في " سنغافورة" منذ وصل إليها مبعوثان : واحد من " أفغانستان " حدثهم بأحاديث الجهاد وحرضهم عليه، والآخر من " إيران " حدثهم عن الثورة " الخمينية " والحكومة الإسلامية، فوجّهْتُ لهم نصيحة بألاّ يشغلوا أذهانهم لا بالجهاد ولا بالحكومة الإسلامية، وبألا يغتروا بمن جاءهم من " أفغانستان " يحدثهم عن الجهاد فإنه جاهل أخطأ في القياس، ولا بالإيراني الذي جاء يحدثهم عن الثورة الإسلامية فإنه عدو رافضي، وبينت لهم أن الواجب عليهم وقد هيأ الله لهم حكومة عادلة – وإن كانت كافرة – أن يشتغلوا بتعليم المسلمين شرائع الإسلام وآدابه، خاصة الناشئة منهم، وأما واجبهم نحو غير المسلمين من " السنغافوريين " فهو الدعوة بالحسنى إلى الإسلام، وأما الجهاد والخلافة أو الحكومة الإسلامية فليسا مطلوبين منهم، وهم أقلية وسط مجتمع بوذي كافر، فلو فكروا في مثل هذه الأمور وسعوا إليها ربما يُقْضَى عليهم بسببها مع عدم القدرة على تحقيقها.

المثال الثالث : زارني قبل بضع سنين في منزلي بالمدينة النبوية عدد من طلاب الجامعة بالمدينة النبوية، وهم من جنوب أفريقيا، وطرحوا مسائل وإشكالات اختلفوا فيها، وطلبوا مني بيان الحكم الشرعي فيها ونصيحتي بشأنها، من أهمها :
أن رئيس جنوب أفريقيا إذ ذاك " نلسون مانديلا " جَمَعَ زعماء المسلمين في بلده وطلب منهم تشكيلَ " حزبٍ " يمثِّل المسلمين في " البرلمان " حتى يطالب هذا الحزب بسنِّ القوانين الإسلامية الخاصة بالمسلمين في المسائل التي لا يمكنهم تطبيق قوانين الدولة فيها، مثل أحكام الأسرة : الزواج والطلاق ونحو ذلك، واختلف زعماء المسلمين في اقتراح هذا الرئيس النصراني العاقل العادل وكان عدد منهم يرفض ذلك بحجة أنه لا يجوز الخضوع لحكم الكافر، ولا دخول برلمانه، ولا الاشتراك في انتخاباته، وفريق آخر أحسن عقلاً وجدوا أن في تنفيذ اقتراح الرئيس " مانديلا " مصلحة للمسلمين ؛ وأيَّدْتُ أنا هذا الرأي وقلت لهم : المصلحة في ذلك واضحة وراجحة، ولا يمكنكم أصلاً أن تقولوا : لا نخضع لحكم الكافر لأنكم فعلاً تحت حكمه، وما دام هذا الحاكم الكافر عادلاً ويُمَكِّنكم من ممارسة شعائركم الدينية، بل وتطبيق بعض أحكام الشريعة الإسلامية فلا ضرر ولا ضير من قبول حكمه والانضواء تحت سلطانه، وأنتم في هذا مثل الصحابة تحت حكم النجاشي النصراني العادل – قبل أن يسلم -.
إن فقه المصالح والمفاسد، والقدرة على الموازنة بينهما في غايةٍ من الأهمية في حياة المسلمين اليوم.

المثال الرابع : وهنا نصل إلى مَحَطِّ الرَّحْلِ فنقول : المسلمون اليوم لا يخفى حالهم من الضعف والتفرق، ومن تفشّي الآفات بينهم : الجهل، والفقر، والكفر، والقهر، والظلم والجور، فقد جثمت على صدورهم قيادات سياسية هم من جلدتهم ويتكلمون بألسنتهم، لكنهم لا يُمثِّلونهم، بل هم وكلاءُ للاستعمار الغربي الذي رحل بجيوشه، وبقي بوكلائه، فالعالم الإسلامي لا زال مُستَعْمَراً لكن بالوكالة، وقد ألحق هؤلاء الوكلاء العملاء الذين نصّبَهُم الاستعمارُ حكاماً أضراراً فادحة بشعوبهم الإسلامية، فهي مثخنةٌ بجراحاتٍ بالغة أضعفت كيان الأمة وكادت تمسّ روحَهَا بضررٍ شديد، وهناك حركةٌ إصلاحية شاملة تحاول تضميدَ جراح الأمة، وترميم ما فسد من بنائها، وتقويةَ روحها المضعضعة، تتمثَّل هذه الحركة الإصلاحية في حركات الدعوة الإسلامية الواعية الشاملة التي يحمل لواءها العلماء، وقد أثّرت هذه الدعوة الإصلاحية في حالة الأمة فبدت بوادر عافيتها في هذه الصحوة العامّة التي امتدّت من مشرق العالم الإسلامي إلى مغربه، وبدا أن محاولات الترميم والإصلاح ظهرت آثارها في كيان الأمة المريض ؛ ولولا مناوأة أولئك الحكام الوكلاء العملاء لأنجَزَتْ حركةُ الإصلاح أهدافها، فالصحوة الإسلامية الآن لا ينقصها إلا قيادة على مستوى الأمة، تُزيحُ أولئك الوكلاء العملاء وتتسلّم القيادة بدلاً منهم..
فهل والأمة في هذه المرحلة لم تبرأ بعد من كل عللها ولا زالت في مرحلة النقاهة وهي بلا قيادة، هل من الحكمة أن نقذف بها في أَتُونِ معركةٍ لا قِبَل لها به ؟! هل من الحكمة إنشاب القتال مع العدو الآن ؟ فما بالك وقد فُتِحَتْ سائرُ الجبهات، أي تمَّ إنشابُ القتال مع سائر الأعداء في وقت واحد..
حتى لو اضطر المسلمون في بعض الأماكن وفي بعض الحالات إلى القتال فإنه ينبغي ألا يتجاوز موقف الدفاع عن النفس، والذب عن الديار والحرمات، كما حصل في أفغانستان ضد الغزو الروسي، جاهد الأفغانُ الروسَ وطردوهم من بلادهم، لكن لم نسمع أنهم هاجموا روسيا نفسها، وما كانوا بحاجة إلى ذلك لأمرين : أولهما أنهم مَرَّغُوا أنفَهَا في تراب أفغانستان، والآخر أنه لم يكن بمقدورهم نقل المعركة إلى خارج أفغانستان ولا من مصلحتهم ذلك..
الجهاد فريضة قائمة إلى يوم القيامة، وحاجة المسلمين إليه شديدة، وحاجتهم إليه اليوم أشد، وقد وقعت الواقعة وبدأت أمريكا الحرب على هذه الأمة الإسلامية مباشرة، وقد كانت قبل الآن تحاربها من وراء ستار وبواسطة " الوكلاء "..
لكن إدارة الجهاد وفقهه وسياسته والتخطيط له " استراتيجياً " و " تكتيكياً " والالتزام فيه بآداب الشريعة وأحكامها – فإن الجهاد له أحكام وآداب – كل ذلك يوجب أن يكون للمجاهدين – بقياداتهم وشبابهم – " مرجعية عليا " من العلماء الربانيين، علماءِ الصحوة، لابد من مشاورة العلماء والرجوع إليهم للسلامة من الأخطاء، وقد تكون الأخطاء أحياناً فادحةً ومميتةً، وأضرارها على الأمة كبيرة، ومفاسدها راجحة.
وهنا مسألة في غاية الأهمية نُعَجِّلُ ببيانها شفقةً على شبابنا، فنقول :
تفجير الوضع بين المسلمين، بحيث يؤدي إلى اقتتال المسلمين، وأن يسفك بعضهم دماءَ بعض، هذا هو ما يسمى في عُرْفِ " السُّنَّة " بـ " الفتنة "..
فإن حرمة دم المسلم من أعظم الحرمات شأناً، ورد في الأثر أن المسلم ما يزال في فسحةٍ من دينه حتى يصيب دماً حراماً(5 )، وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقاب بعض ) (6 )، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) (7 )، فإذا كان مع ذلك هناك التباسٌ في الأمور، وشدةٌ في الاختلاف بين الناس، وليس للمسلمين جماعةٌ ولا إمام، فهي فتنة عمياء : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ستكون فتنٌ القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرّفَ إليها تستشرفه، ومن وجد ملجئاً أو معاذاً فليَعُذْ ) متفق عليه(8 ).
وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم : ( فكسِّروا فيها قسِيَّكم وقَطِّعوا أوتاركم واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دُخِلَ على أحدٍ منكم فليكن كخير ابني آدم ) (9) وفي رواية قالوا : فما تأمرنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ( كونوا أحْلاَسَ بيوتكم ) (10 ) أي الزموا بيوتكم ولا تشاركوا في الفتنة.
فإن كان الناس مجتمعين على إمام مهما كان ظالماً فاسقاً فالخروج عليه هو ما يسميه الفقهاء بالبغي، ومقترفوه هم البغاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن منازعة ولاة الأمر وحرّم الخروج عليهم وإن بغوا وظلموا ما داموا يصلون، ويقيمون الصلاة..
قال صلى الله عليه وسلم : ( يكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، فقالوا : يا رسول اله ألا نقاتلهم ؟ قال : ( لا،
ما صلوا )(11 ).
وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وألا ننازع الأمر أهله وإن بغوا وأن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم "(12).
أئمة الجور من ولاة المسلمين هذا هو منهج أهل الحق حيالهم، يطيعونهم في المعروف ولا يتابعونهم على المنكر ولا يرضون بجورهم، ولا ينزعون يداً من طاعة لكن يناصحونهم ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، ويقولون بالحق ويبينونه للناس لا يخافون في الله لومة لائم، ويصبرون على ما يصيبهم في ذلك..
هذا هو ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وأقوال السلف وأفعالهم، وهذا هو ما تقتضيه قاعدة المصالح والمفاسد ؛ لأن المفاسد المترتبة على الخروج على ولاة الجور والفسق أعظم من مفاسد جورهم وفسقهم ؛ ولهذا قال الفقهاء : " ليلة في ظل حاكم ظالم، خير من ألف ليلة بلا حاكم ".
فليس لأحد كائناً من كان أن يشعل نيران البغي والخروج بين المسلمين، ومن فعل فإنه يبوء بإثم كل المفاسد العظمى المترتبة على ذلك من انتهاك الحرمات، وسفك الدماء المعصومة، وانفلات حبل الأمن، وضياع مصالح المسلمين العليا..
وهذه النظرة من الفقهاء واقعية، المقصود منها رعاية مصالح الناس ودرء المفاسد العظمى عنهم بالصبر على ما دونها من المفاسد، وهذا يوافق أيضاً قاعدة ارتكاب أخف الضررين، فتحريمهم للخروج في مثل هذه الأحوال نظر منهم لما فيه صالح المسلمين، وليس إقراراً لجور الحاكم وفسقه، وليس إقراراً بشرعيته ولا أهليته، فقد تكون شرعيته سقطت ومع ذلك لا يبيحون الخروج عليه إذا كانت الأمور منضبطة بولايته، والكلمة مجتمعة على طاعته، وتطبق هذه القاعدة حتى على الوالي الذي ظهر كفره واستبانت ردته، أو حصل منه ما يوجب سقوط حقه في الطاعة كتعطيله للصلاة، أو لأحد أركان الإسلام، لأن مسألة سقوط شرعيته منفكة عن مسألة الخروج عليه، والذي يقرر هذه أو تلك هم " أهل الحل والعقد "، أعني علماء الأمة الربانيين الذين يقولون الحق ولا يخافون لومة لائم..
هذه الأمور الخطيرة والمسائل الكبار ليست مسؤولية الأفراد ولا المجموعات إنما هي مسؤولية من ذكرنا، فإن لم يكن أهل الحل والعقد قادرين على أن يحلُّوا أو يعقِدوا، فكُنْ حِلْسَ بيتك حتى يقدروا، كن حينئذ من القاعدين حتى يأذن الله بالفرج ؛ لأنه لا خير في الخروج وحمل السلاح في مثل هذه الأحوال، القاعدون فيها خيرٌ من القائمين..
إن الصبر حينئذ، والاشتغال بالدعوة والإصلاح، والهداية والبيان وتعليم الناس دين الله، خيرٌ وأحسن تأويلاً..
قال الحسن البصري رحمه الله : " والله لو أن الناس إذا ابتُلُوا من قِبَل سلطانهم صبروا ما لَبِثُوا أن يرفع الله عز وجل ذلك عنهم، وذلك أنهم يفزعون إلى السيف فيوكَلُون إليه، والله ما جاءوا بيوم خيرٍ قط، ثم تلا : ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ) [ 137/ الأعراف ](13 ).

فإذا قيل : فمتى نجاهد إذن ؟
أقول : الجهاد والقتال لا يكون إلا تحت راية إمام شرعي، أي دولة إسلامية تتبنَّى الجهاد، وقد كانت وَمَضَتْ لأهل أفغانستان ومن كان بها من المجاهدين وَمْضَةٌ مضيئة أتاحتْ لهم فرصةً ثمينة، هي تأسيس دولةٍ شرعيةٍ مجاهدةٍ ؛ وهي حكومة " الطالبان "، فليتهم عرفوا كيف يحافظون عليها ولم يستعجلوا حتى تقوم على ساقيها، وتجمع كلمة قومها وتصلح من حالهم، فإذا ما تم لها ذلك تبدأُ بجيرانها فتساعدهم على التحرُّر من حُكْم الكَفَرةِ من الصينيين الشيوعيين، وأذناب الروس وبقاياهم، كما قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ) [123/التوبة] وإذ قد وقع ما وقع وقضى الله أمراً كان مفعولاً فقد وجب على أهل " أفغانستان " جهاد " الدّفع " مرة أخرى، لإنفاذ بلادهم من الاحتلال؛ ولإعادة حكم الإسلام، وحتى يتمكّنوا من ذلك عليهم أن يكفوا عن مقاتلة العالم أجمع.
وجهاد " الدفع " قائم اليوم في عدد من بلاد العالم الإسلامي : مثل فلسطين، وكشمير، والشيشان.. فالواجب على من يقدر نصرةُ إخوانه المُعتدَى عليهم بدلاً من أن يفتح جبهاتٍ جديدة لا قِبَل للمسلمين بها وهم في هذه الأحوال من الضعف والتفكك وغياب القيادة.
وفيما سوى ذلك على المؤمن أن يصبر عن القتال ويشتغل بالدعوة، لقد صبر الصحابة ثلاث عشرة سنة على طغيان المشركين وقهرهم، وأحياناً عندما كانت تضيق صدور بعضهم فيواجهون النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال : إلى متى ؟! كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالصبر، كما أُمِر هو بالصبر فصبر صلى الله عليه وسلم، ولما اشتد عليه إيذاء المشركين وقهرهم قال له ربه عز وجل : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) [35/ الأحقاف ].
أي لا تستعجل لهم العقوبة.


(1 ) من عبارات شيخ الإسلام ابن تيمية [ مجموع الفتاوى 13/96 ].
( 2) انظر مجمع الزوائد [ 1/62 ].
( 3) النهاية [ 1/92 ].
( 4) انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/321 [ طبعة الحلبي 1375هـ ].
( 5) تفسير ابن كثير ( 1/571 ).
(6 ) متفق عليه : انظر اللؤلؤ والمرجان / لمحمد فؤاد عبد الباقي / ص14.
( 7) نفس المصدر / ص811.
(8 ) نفس المصدر / ص809.
(9 ) أبو داود [ السنن 4/99-101 ].
(10 ) نفس المصدر.
( 11) الشريعة للآجري / ص38.
( 12) الشريعة للآجري / ص39.
(13 ) الشريعة للآجري / ص38.

5 تعليقات

  1. رفقة عمر  

    انا قرات البوست من اوله للاخر مع انه
    طويل بس فعلا عرفنى حاجات مش عارفاه وهى عدم الخروج عن ولى الامر طيب اللى بيخروجوا عن ولى الامر دول اثمين ولا ايه بالظبط
    وهل يستحقوا العقاب فعلا
    حتى ولو كانوا ملتزمين

  2. أبو عمر - الصارم الحاسم  

    كلام معقول جدا ولا خلاف عليه من حيث المبدأ يا دكتور

    لكن المشكلة ان المتبنين لهذا الفكر شيئا فشيئا ينكرون انهم في مرحلة انتقالية...بمعنى انها تبدأ بأننا مضطرين لهذا ومضطرين لاعادة بناء الخلافة الاسلامية خطوة فخطوة


    ولكن تنتهي بانكار جوانب في الشريعة وأركان في الاسلام بشكل مؤبد ودائم وليس بتأجيل تطبيقه بشكل مؤقت ..واحيانا انكار ماهو معلوم من الدين بالضرورة بشكل دائم بحجة الواقع الآن


    مثال: حديث نائب المرشد العام للاخوان -محمد حبيب- عن الجزية وانكاره والغائه لها


    أمثلة اخرى..الانكار على المجاهدين -جهاد الدفع - بحجة الواقع العملي ..بل وانكار فريضة الجهاد في الاسلام بشكل مؤبد ودائم وليس بشكل مؤقت مرتبط بالظروف الحالية


    عدم الاهتمام بالدعوة للاسلامسواء على المستوى الفردي - افراد مع بعضهم البعض - او على المستوى العام بدعاوى احترام الاختلاف مع الآخر وتجنب توضيح ومناظرة ما هو فاسد في الشرائع الأخرى


    شطط البعض ودعوته لاعادة النظر في الفقه الاسلامي بل وفي فرائض وحدود الاسلام بدعوى تغير الظرف الزماني والمكاني - حتى ولو ادى ذلك لتحليل زواج المسلمة من غير المسلمة او اباحة الزنا او اباحة الربا وعدم فرضية الحجاب...... الخ



    استغلال هذا الكلام في عدم الانكار القولي حتى على الحكام الظالمين..نعم احيانا من الأفضل عدم الخروج عليهم..لكن الموضوع يتطور لعدم الكلام بتاتا..عدم النصح لهم...النفاق لهم....بل والدعاء لهم بالتوفيق في غيهم

  3. Maha  

    بسم الله

    السلام عليكم

    المقال يستحق القرآءة بالتأكيد لكنه طويل للغاية

    إن شاء الله سأحاول العودة وقرآءته

    ومبارك على نقل المدونة إلى الووردبريس .. التصميم هناك أكثر راحة

  4. لحظة  

    كلامك هو شرح واف لحديث
    رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم عن حذيفة بن اليمان "‏ ‏يكون دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت يا رسول الله صفهم لنا قال هم قوم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك قال فالزم جماعة المسلمين وإمامهم فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت كذلك"
    وهذا هو ما يجب ان نفعله الان كما تفضلت واوضحت
    جزاك الله خيرا

  5. mo'men mohamed  

    أخى العزيز
    قرأت المقال كاملا لما وجدته به من روعه
    أحييك عليه
    فأنا أتفق مع نقاطك التى ذكرت
    لذا اسمح لى انى أقوم بطابعة ذلك المقال والحفاظ به عندى لأنه فعلا قيم و به حجج على ردود كثير من أصحاب العقول الضيقه التى تنظر للأمور من جانب واحد فقط
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إرسال تعليق