مقدمة
(الموضوع طويل و حأنشره على حلقات كتيرة)
فلسفة الحكم في دولة الخلافة
كانت " الشورى " هي فلسفة نظام الحكم في دولة الخلافة الراشدة, وهي فلسفة استقرت منذ عصر النبي, ودعا إليها القرآن الكريم والسنة النبوية, كمبدأ عام ونهج كلي , ترك أمر التفصيل فيه والتحديد له لاجتهاد الأمة وفق مصالحها المتجددة وحاجاتها المتطورة.
وليس لأحد أن يدعي أن " الشورى " كانت ابتكارا إسلاميا غير مسبوق, ففي تراث الإنسانية القديم تجارب عديدة, ونظريات كثيرة طبقتها أو حاولت, ودعت اليها وحبذتها..
لكن يبقى أن "الشورى الإسلامية" كانت اختيارا عربياً إسلاميا, انحازت به دولة الخلافة لأفضل ما عرفه التراث الإنساني في السياسة ونظم الحكم, كما كانت تطويراً لهذا التراث انتقل به من ميدان الفكر السياسي الإنساني إلى حيث صبغه بصبغة الدين, إذ غدت الشورى فلسفة السياسة المحققة لإرادة الله, فضلاً عن تحقيقها لمصالح المسلمبن
فهي وحدها إرادة الله في السياسة, وما عداها من تفاصيل ونظم قد ترك لإرادة الناس, شريطة أن تحقق هذه التفاصيل والنظم القدر الأكبر من إرادة المحكومين, أي القدر الأكبر من الشورى.
ولقد عرض القرآن الكريم لمعنى الشورى في كثير من قصصه, محبذاً أسلوبها ومزكياً نمط الحكم الملتزم بها
ثم عرض لها بلفظها الخاص في مواطن ثلاث: أحدها خاص بالحياة الأسرية ومشكلاتها, فجعل " التشاور " وسيلة للفصل في هذه المشكلات :( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة, وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف, لا تكلف نفس إلا وسعها , لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده, وعلى الوارث مثل ذلك, فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما, وأن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف, واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير )..
أما الموطنان الآخران فقد عرض القرآن فيها للشورى بصدد الحديث عن السياسة وشؤون الحكم وقضاياه , فطلب في أحدهما من الرسول (صلى الله عليه و سلم) أن يشاور المسلمين في " الأمر " : (فبما رحمة من الله لنت لهم , ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك, فاعف عنهم, واستغفر لهم, وشاورهم في الأمر, فإذا عزمت فتوكل على الله, ان الله يحب المتوكلين )
ومصطلح " الأمر " هنا في القران يعني أمور السياسة وشؤون الحكم ومشكلاته- وكذلك حاله في الأدب السياسي لعصر الخلافة الراشدة- وذلك لعلاقته " بالائتمار " و " الأمير "و "الائتمار " يعني: التشاور
فالصلة وثيقة, بل عضوية, بين السياسة و الشورى
وعلى العكس من ذلك علاقة الشورى بأمور الدين , وخاصة أصوله, فهي منقطعة فالدين وضع الهي, نقبله, ونتعبد بتكاليفه, مسلمين الوجه لله
بينما السياسة أمور تأتمر وتتآمر معاً في قضاياها, ونختار لنا فيها الأمير القائد, ونسلك سبيل الشورى في هذا الميدان.
ويؤكد هذا المعنى السياق الذي عرض فيه القرآن الكريم لمصطلح الشورى في الموطن الثالث, ذلك أنه قد جعل منها إحدى الصفات التي تميز المؤمنين , فهو يعدد صفات (الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) فيقول: (والذين استجابوا لربهم, وأقاموا الصلاة, وأمرهم شورى بينهم, ومما رزقناهم ينفقون)
ففي الجانب الديني : استجابوا لله فآمنوا به, ثم أقاموا الصلاة تصديقاً ودلالة على هذا الايمان
وفي أمورهم, أي سياستهم وشؤونهم الدنيوية: التزموا الشورى كفلسفة وسلوك ففى الأموال: سلكوا طريق الإنفاق, بعد أن اقتصروا في الكسب على(ما رزقناهم), أي الكسب المشروع و الحلال
وعلى فلسفة الشورى أكدت, كذلك, السنة النبوية
فغير الأحاديث الكثيرة التي تحبذها وتمتدحها - من مثل حديث :" والمستشير معان, والمستشار مؤتمن "- نجد أن التراث السياسي لدولة الرسول, في المدينة, حافل بالنماذج التي تجسد الشورى, كفلسفة في السياسة, فكل قراراته السياسية والحربية كانت خاضعة للتشاور, وكثيراً ما عدل عن رأيه عندما كشفت المشاورة عن خطئه, وكثيراً ما سأله صحابته عن رأيه أو موقفه :أوحي هو ؟ أم الرأي ؟
فان قال لهم : انه الرأي
قدموا ما عندهم, وكانت الشورى سبيلاً لتعديل الرأي أو الموقف
كما يبرز لنا في تراث هذه الفترة تلك التوجيهات التي قصد الرسول بها أن يعلم صحابته السلوك الشورى في أدارة أمور الحرب و السياسة
فهو عندما يرسل أحد الجيوش للقتال, يوصي الجند : ان القائد فلان, فإن أستشهد ففلان, فإن أستشهد ففلان, فإن أستشهد فالجيش يختار قائده , وهو بذلك يضع الشورى , كفلسفة, للحكم والقيادة, موضع التطبيق
وإذا كان القرآن والسنة وتجربة الرسول السياسية قد زكت الشورى, فلسفة لنظام الحكم, فإنها قد وقفت عند المبدأ والاجمال
كما أن الطابع البسيط لمجتمع دولة الخلافة قد وقف بتطبيقات الشورى , شكلاً ونطاقاً, عند حدود تجاوزتها بعد ذلك العصر احتياجات الحياة وضرورات الأمم والشعوب
و هذا الأمر لا يعيب الشورى الإسلامية , بل على العكس يزيدها قيمة و خطرا
فهي تقرر المبدأ, وتؤكد عليه, ثم تترك الحدود والنطاق والقوالب والأشكال لإبداع الحقل الإنساني الذي يجتهد كي يلبي المصالح المرسلة والضرورات الطارئة ومستحدثات الامور
ولقد وقفت تجربة دولة الخلافة بالشورى, في البداية, عند النطاق الذي عرفته تجارب " الدولة المدينية " في تراث الإنسانية السياسي القديم فالذين تشاوروا لاختيار الخليفة كانوا هم وجوه سكان العاصمة من المهاجرين والأنصار, ولم يدخل في الشورى من وراء حدود العاصمة من عرب الحواضر أو أعراب البوادى
وأيضاً, ففي نطاق وجوه سكان العاصمة كانت هناك ميزة وامتياز لتلك الهيئة الدستورية القيادية, التي لعلها أول هيئة , أو حكومة, في تراث العرب المسلمين , وهي (هيئة المهاجرين الأولين)
فهي:
.قد تكونت من عشرة كانوا يمثلون أهم البطون في القرشيين الذين هاجروا من مكة إلى أبو بكر, وطلحة بن عبيد الله-(من تيم)-
و عمر بن الخطاب, وسعيد بن زياد-(من عدي)-
و عبد الرحمن بن عوف, وسعد بن أبي وقاص-(من زهرة)
و علي بن أبي طالب-(من هاشم)-وعثمان بن عفان-(من أمية)-
والزبير بن العوام-(من أسد)-
وأبو عبيدة بن الجراح-(من فهر)
.وهؤلاء العشرة كانوا أسبق من أسلم من أشراف قريش
فلقد كانوا " أولين " في الإسلام, و " مهاجرين " فيمن هاجر, ومن هنا جاءت تسميتهم وتسمية هيئتهم ب(المهاجرين الأولين)
. وهم كانوا أشبه بحكومة الدولة على عهد الرسول, فبيوتهم كانت تحيط بالمسجد- وكان دار الحكومة ومقرها- ولبيوتهم هذه أبواب تفضي إلى المسجد, دون غيرهم من المسلمين
كما كان مكانهم, في الصلاة: خلف الرسول, وفي الحرب: امامه
فهيئة (المهاجرين الأولين) هذه احتكرت لنفسها حق الترشيح,من بين أعضائها, لمنصب الخلافة, وحق البيعة الأولى التي تميز الخليفة وتقدمه إلى الأنصار- (الوزراء
بمعنى المستشارين)- والى وجوه العاصمة وقادة الرأي فيها كي يعقدوا البيعة العامة لمن اختارته وبايعت له هيئة (المهاجرين الأولين), فكأنها كانت لجنة ترشيح, أو الهيئة التشريعية, أو التنظيم السياسي الذي يختص بالمسعى إلى نصف الطريق المؤدي لتنصيب رأس الدولة في المجتمع
ولقد كان هذا الحق لهذه الهيئة موضع جدل وموطن خلاف في سقيفة بني ساعدة يوم وفاة الرسول, عليه الصلاة والسلام, ولكن أبا بكر قال للأنصار الذي يمارون في امتياز (المهاجرين الأولين) هذا: " إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش :
و بعدها مارست (هيئة المهاجرين الأولين) سلطاتها الدستورية هذه
فرشح اثنان منها-عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح -ثالثاً منها أيضاً- أبو بكر- ثم بايعه أهل المدينة, من بعد, بيعة عامة
و عندما حضرت أبا بكر المنية تشاور مع بقية هذه الهيئة , ثم عقدوا لعمر بالخلافة من بعد أبي بكر, ولما توفي أبو بكر بايع سكان المدينة لعمر, تصديقاً على بيعة (المهاجرين الأولين)
وقبل أن يسلم عمر روحه لبارئه جعل بقية هذه الهيئة مجلس الشورى الذي يختار الخليفة من بعده, وأوصى بأن يتسع نطاق شورى الهيئة وتشاورها - وكان قد بقي من أعضائها ستة - فاشترك عبد الله بن عمر في عضويتها, له الرأي والمشورة دون إبرام القرار ودون حق الترشيح للخلافة
و ذهب عبد الرحمن بن عوف يشاور سكان المدينة فيمن يخلف عمر في منصب الخلافة " فما ترك أحداً من المهاجرين والأنصار وغيرهم من ضعفاء الناس ورعاعهم إلا سألهم واستشارهم, أما أهل الرأي فأتاهم مستشيراً, وتلقى غيرهم سائلاً : من ترى الخليفة بعد عمر ؟
و أمضى أياماً ثلاثة يستعلم من الناس ما عندهم " في أمر خلافة المسلمين
فلما اكتملت لهيئة (المهاجرين الأولين) المشاورة, عقدت بالخلافة لعثمان بن عفان, وبايعته البيعة الأولى والخاصة , ثم دعت أهل العاصمة وبايعته البيعة الثانية و العامة
وبعد الثورة على عثمان , ومقتله, أراد الثوار عقد البيعة لعلي بن أبي طالب , فأنبأهم أن الترشيح والبيعة الأولى إنما هي حق (المهاجرين الأولين) ولم يكن قد بقي منهم في ميدان السياسة سوى طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام - فجاء الثوار يهما , حيث عقدا البيعة لعلي, ثم بايعه الناس من بعدهم
تلك هي الحدود التي بلغتها تطبيقات الشورى , كفلسفة لنظام الحكم في دولة الخلافة حدود حددتها طبيعة المجتمع والعصر, وان يكن المبدأ قد ظل قائماً, وظلت له صلاحيات الامتداد إلى ما هو أبعد من هذه الحدود.
الخميس, مايو 10, 2007
السلام عليكم ..
تلك الهيئة .. لم يسميها أحد من قبل بهذا التعداد الذي ذكرت ..
يعني لم يتم حصر كلمة "المهاجرين الأولين" في هؤلاء الرجال ..
ولا ارى انه يمكن تحديد اعضاء تلك المجموعة على اساس قومي ..او عرقي
كما ان عمر بن الخطاب لم يكن من اوائل المسلمين .. فالعبرة ليست بمن سبق ..انما بمن أخلص وصدق ..
وستجد ان الرسول صلى الله عليه و سلم امتدح هؤلاء كل على حدة بميزة او مدح .. لذلك أحبهم الناس .. ولم يعارضهم أحد في رأيهم .. وعملوا بما اتفقوا عليه ..
موضوع مهم جدا ..
رائع جدا ..
كمل يا أخي
بارك الله لنا فيه
السلام عليكم