الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل: « المقال الثالث » الرأي العام في مصر.. غير مرتاح وغير مطمئن 20/1/2008
تمهيد كان صلب المقال الثالث مجموعة من الإشارات تومئ إلي فجوات ظهرت أمام الأسئلة الكبيرة عن : ماذا؟ - كيف؟ - ومتي؟ وتركز السياق بالدرجة الأولي عن ظواهر تستحق الاهتمام من جانب النظام، حتي لا يتفاقم أمرها، وتتصاعد من حدود الظاهرة إلي حدود الأزمة! كان الداخل المصري في حالة حيرة شديدة، وأولها الحيرة علي طريق التنمية والمسؤولية عن إدارتها اقتصادياً واجتماعياً بأقصي كفاءة وعدل ممكنين، بما يحقق الآمال العريضة لزمان ما بعد «آخر الحروب». كانت آمال الناس عريضة، لكن ما رأوه فعلاً تناقض مع ما انتظروه حلماً.
وكانت تلك بداية قلاقل سبقت ابتداءً من مظاهرات الطعام (18-19 يناير) سنة 1977، إلي مأساة المنصة (6 أكتوبر) سنة 1981، ثم انتظارهم بالأمل لما هو قادم!
وفي ذلك اللقاء الذي أشرت إليه مع الرئيس «مبارك»، فقد كنت أثرت اقتراحين، ربما يكون فيهما ما يساعد الرئيس علي مهامه:
- تعزيز جهاز الرئاسة بمجموعة من الخبراء - وفي البلد منهم وفرة - ونحن هنا لا نحتاج أن نخترع، وقد يكفي أن ندرس ماذا يفعلون في البيت الأبيض - مقر الرئيس الأمريكي - أو في البيت رقم 10 داوننج ستريت - مقر رئيس الوزراء البريطاني.
- واقترحت عليه أيضاً أن يستعين بتقليد جري عليه الرئيس الأمريكي «روزفلت» - حتي في زمن حرب عالمية - ثم سار عليه الرئيس «كنيدي»، وهو يطرح علي أمريكا سياسة الآفاق الجديدة، والاقتراح أن يقوم الرئيس مرة كل شهر بدعوة ما بين عشرة إلي اثني عشر رجلاً وامرأة من جميع مجالات العمل الوطني من النقابات المهنية، والعمالية، وأساتذة الجامعات، ورجال الهيئات القضائية والدبلوماسية، ورجال الأعمال، وكبار موظفي الدولة، وقادة القوات المسلحة، وقادة البوليس،
وكان ظني أن الرئيس الجديد لم يتعرف علي العمل العام بما فيه الكفاية، ومن المفيد - يقيناً - أن يسمع الناس، وأن يسمعوه في جلسات حميمة، مع التنبيه إلي أن تلك لقاءات تعارف، وليست مؤتمرات صحفية تُذاع وقائعها علي الملأ - وحتي إذا حدث تسرب لشيء قيل في حوار، فإن الضرر محصور - بل ربما كانت الفائدة أوسع في بعض الأمور.
نوفمبر 2003
نوفمبر 1982
سيادة الرئيس
ليس صادقاً معكم - وليس صادقاً مع مصر - من يزعم أمامكم اليوم أن الرأي العام مرتاح أو مطمئن.
مثل هذا الزعم أبعد الأقوال عن الصدق - أقربها إلي غيره.
وليس صادقاً معكم - وليس صادقاً مع مصر - من لا يعترف بصراحة وأمانة أن كثيرين لا يعرفون إلي من يتجهون بما لديهم من أسباب التوجس والقلق - إلا أنتم - مهما بدا ذلك تجنياً يحمل الأشياء فوق قدرتها، ويحمل الرجال فوق طاقتهم. فهذه حقيقة سياسية لا مجال للدوران حولها، مع التسليم بأن حتي الحقائق أنواع - وإن بدا ذلك تناقضاً في استخدام الكلمات!
* فهناك الحقائق العلمية مثلاً، وهي قوانين ثبتت معادلاتها وأحكامها في الطبيعة والحياة.
* وهناك الحقائق التاريخية مثلاً، وهي كشف مستمر يضيف إليه البحث والدرس إضاءة جديدة كل يوم.
* وهناك الحقائق السياسية، وهي اعتقاد الناس بصحة وقائع أو أفكار راجت وشاعت!
وأركز الآن - بإذنكم - علي الحقائق السياسية بسبب تأثيرها الفادح علي صُناع القرار وأجواء صناعته، بمعني أنه حين يأخذ الاعتقاد السائد لدي الرأي العام في أي بلد من البلدان منحي معينا - فتلك حقيقة سياسية لابد من التعامل معها، ويستوي الدليل والظن هنا لأن المجال ساحة سياسة، وليس قاعة محكمة!
ومع أن الرأي في مجال السياسة ليس لقضاة يطبقون مواد قانون محايد، أو يفترض أن يكون محايداً، وإنما لجماهير تحتكم إلي مصالحها وآمالها، وإلي تجاربها ومشاعرها، وإلي مخاوفها ومواريثها. فإن الرأي العام يملك في النهاية سلطة إصدار الأحكام، قضاة المحاكم بواسطة نطق قضائي، والرأي العام بواسطة نطق سياسي أهم وأخطر، ففي حين أن نطق القضاة يخص أفراداً بذواتهم، فإن نطق الرأي العام يمس نظماً بأكملها!
* * *
وأريد أن أتحفظ أمامكم - ياسيادة الرئيس.
فأنا لا أدعي - أولا - نيابة عن الرأي العام، لأني لا أملك هذا الحق، وليست لدي وسائله، بل إنني لا أعترف به لنفسي ولا لغيري، خصوصاً في غياب أساس علمي لقياس اتجاهات الناس، وفي غياب مؤسسات لها أهلية هذا الحق.
وثانياً: فإنني واحد من الذين نادوا باستمرار بالتفرقة بين الرأي العام والرأي الخاص، لأن السياسة في مصر كثيراً ما خلطت بين الرأيين، فأحاطت بصانع القرار جماعات الضغط من أصحاب المصالح يتوسلون للتأثير عليه بادعاء التعبير عن رأي عام، بينما هم في الحقيقة يعبرون عن مساحة محصورة في نطاق ما يمسهم مباشرة، وكذلك يخلطون بين الرأي العام والرأي الخاص!
وثالثاً: فإنني أعترف أنه ليس في مقدور إنسان أن يدعي الحياد بحيث يجوز له أن يراقب الحركة العامة في مجتمع كبير ومعقد حوله - كالمجتمع المصري - ثم يتوهم أن ما تجمع لديه صورة كاملة للواقع، أو الأقرب إليه، لأن كل إنسان في موقعه يري ما يسمح له هذا الموقع برؤيته وليس أكثر، وبالتالي فإن رصده للحركة العامة من حوله يصدر عن نقطة محددة. وفي الحقيقية فإنني لا أتصور الحياد لصاحب رأي، وإلا كان معني ذلك التوهم بإمكانية الانسلاخ عن الزمان والمكان، وعن التاريخ والحياة، وكله في رأيي من المستحيلات - واقعاً وفكراً.
ومع ذلك كله، ورغم هذه التحفظات وقد سجلتها علي نفسي بنفسي - فإنني أظن أنه يبقي لأي واحد من هؤلاء الذين طال عهدهم بميادين العمل العام، وامتدت عشرتهم مع الناس والحوادث - حاسة معينة في رصد ما يجري من حولهم، خصوصاً إذا كان ذلك صميم عملهم، وخصوصاً إذا انتفي الظن بوجود مصلحة ذاتية تدفعهم.
وأدعي - يا سيادة الرئيس - أنني قريب من هؤلاء. فقد قضيت في ميادين العمل العام قرابة الأربعين سنة، ثم إنني صحفي، وصحفي لم يعد يطلب إلا حقه في حب الوطن - وواجبه في الحرص علي مستقبله.
هكذا - يا سيادة الرئيس - فإنني أظن أو علي الأقل أتصور - أن ما أعرضه عليكم هو صورة لحركة الرأي العام المصري - أشبه ما تكون بمحاولة التقاط صورة، قد تكون جزئية، وقد يكون ضوؤها غير كافٍ لإظهار تفاصيلها، لكنها فيما أرجو - غير بعيدة عن الواقع وليست منقطعة الصلة به!
* * *
سيادة الرئيس
أستأذنكم - إذا سمحتم - بأن أعود إلي الأمور عند نقطة بدايتها الأولي، ثم أنتقل منها خطوة بعد خطوة لنري كيف تعاقبت الحوادث، وكيف تحركت اتجاهات الرأي العام.
هنا، لابد لنا - يا سيادة الرئيس - أن نتوقف أمام صورتين:
- صورة السنوات الأخيرة من عهد الرئيس «السادات».
- وصورة الأسابيع الأولي من عهدكم.
* الصورة الأولي - أولاً:
سوف أتجنب بالقطع - في حديثي عن صورة السنوات الأخيرة من عهد الرئيس «السادات - أي وصف أو تعبير أو لفظ لا يليق بالمقام، لأن الأدب مع الناس فضيلة وحقهم واجب، واحترام الحياة والموت فريضة، لهذا فإن ما أقوله وبمنتهي الموضوعية، ملخصه أن جماهير واسعة من الشعب المصري أحست في السنوات الأخيرة من عصر الرئيس «السادات» أن هناك فجوة واسعة بين ما يقال لها الواقع الذي تعيشه كل يوم.
وليس صحيحاً - يا سيادة الرئيس - ما يزعم به بعضهم من أن شواغل الناس كل يوم بعيدة عن السياسة. بل الصحيح أن الناس في الدنيا كلها - حتي في الصحاري والغابات - يصحون وينامون، ويأكلون ويتنفسون - سياسة.
وقد يكون مناسباً أن نتفق هنا علي تعريف مقبول للسياسة، والتعريف المقبول في ظني: «أن السياسة هي تنبيه أي شعب إلي مكانه ومكانته، وإلي تاريخه وهويته، وإلي اكتشاف قدرته وهمته، والدفع بإمكانياته وإرادته بقصد حشد وإدارة ما يملكه من موارده الطبيعية والإنسانية، التاريخية والاستراتيجية، الاقتصادية والثقافية - بما يكفل بلوغ الحد الأدني من مطالبه، ويسعي بيقظة وكفاءة لتحقيق الحد الأعلي لهذه المطالب».
وإذا كان ذلك التعريف صحيحاً - فإن الجماهير العادية لا تعرف عن الحياة السياسية مما تسمعه من خطب زعمائها، وتقرؤه عن خططهم المعلنة، أو تراه متزاحماً علي صفحات الجرائد أو شاشات التليفزيون، وإنما هي تعرف حين تقيس تأثير ذلك كله علي حياتها وآمالها - وعلي معاشها كل يوم.
ويقال أحياناً - ظلما وتجنياً - إن الشعب المصري لا يعرف السياسة إلا عن طريق بطنه، والقول العدل أن ذلك حال كل الشعوب، إذ يكون مدخلها إلي السياسة ما تري من أحوال حياتها ومعاشها، أي ما تواجهه وتتعرض له في جميع شؤونها صباح مساء، فذلك في معيارها وزن الحقائق، وغيره لا يسنده واقع ولا يقوم عليه دليل.
بل إن الثورات - وهي ذروة التحولات السياسية الكبري في المجتمعات - وقعت علي طول التاريخ لأسباب تتصل بالحياة اليومية - الاقتصادية الاجتماعية بالدرجة الأولي - لعامة الناس.
ولم تقم ثورة في التاريخ - في أي مكان في الدنيا - إلا وكان محركها المباشر اقتصاديا اجتماعيا - وأعود إلي ما كنت أقوله:
وهو أنه في أواخر عصر الرئيس السادات ظهرت فجوة واسعة بين القول المُعلن - والحقيقة المُعاشة!
وفي الواقع فإن تلك السنوات كانت سنوات جَيشان اجتماعي وسياسي. وكان هناك بعض من رصدوا وشخصوا، أذكر منهم ذلك الرجل العجوز الحكيم الذي فقدته مصر منذ قرابة العامين، وأعني به الدكتور «محمود فوزي».
إنكم لم تعرفوا الدكتور «محمود فوزي» - يا سيادة الرئيس - وكان في مُناي أن تعرفوه وأن تسمعوه، لم يعرفه ولم يسمعه كثيرون، فقد كان الرجل بطبعه قليل الكلام، عزوفاً عما لا لزوم له، وكان عفّاً، وكان مثقفاً، ولذا أعطاه الناس نوعاً فريداً من الاحترام يقوم علي مجرد إحساسهم بأنه رجل له معني، وبالتالي رجل له قيمة تستحق الحرص.
كنت أراه كثيراً، وكنت زائراً منتظماً لفراش مرضه في أيامه الأخيرة، وكانت له تعبيرات لا ينافسه فيها أحد. وسألته ذات يوم كيف يري الأحوال؟ وكان رده:
«لقد أضفنا إلي فنون المسرح ظاهرة جديدة هي المسرحة بلا مسرحية. فهناك آلات تعزف، وطبول تدق، وأضواء وألوان، وستائر من القطيفة الحمراء المزركشة بالذهب ترتفع، وخلفيات من الديكور تظهر، وناس يروحون ويجيئون علي الخشبة، وأصوات متنوعة الطبقات واللهجات - لكن المشكلة أنه ليس هناك موضوع، بل ليس هناك نص.
ذلك ما أعنيه: المسرحة دون مسرحية!».
وسكت الدكتور «فوزي» يومها قليلاً، ثم استطرد:
«أخشي ما أخشاه أن تجيء لحظة يكتشف فيها جمهور المتفرجين، حقيقة أنه ليس أمامهم إلا مؤثرات بالصوت والضوء أمام عيونهم وفي آذانهم، لكنها مؤثرات بلا موضوع، وبلا نص».
وكان ذلك بالرمز تعبيراً عن واقع أنها مسرحة بلا مسرحية.
وجاءت لحظة أفاق فيها جمهور المتفرجين من المؤثرات المرئية والمسموعة، واكتشفوا أن الموضوع هش، والنص ركيك، وجاءت لحظة الحقيقة.
..........
إنني - يا سيادة الرئيس - ضد الاغتيال مهما كانت دوافعه، خصوصاً بالنسبة لرجل حمل بشجاعة مسؤولية قرار أكتوبر، وبصرف النظر عن كل ما جري بعد ذلك وصار - فإن علينا التنبه إلي أنه لا شيء يجري في فراغ، بما في ذلك الاغتيال لسوء الحظ. والواقع أن الاغتيال لا يحدث إلا في مناخ يهيئ له ويجعل تنفيذه وارداً، ونتائجه متوقعة، وربما أن ذلك كان من سر موقف اللامبالاة الذي ظهر يوم تشييع جنازة الرئيس «السادات»، وقد لفت هذا الموقف نظر العالم، فراح يتأمله مدققاً ومحققاً، يحاول أن يتقصي الأسباب ويتعرف علي دواعيها.
وقد نلاحظ - يا سيادة الرئيس - أن الذين قاموا بالاغتيال - خالد الإسلامبولي ورفاقه - لم يكونوا من نوع أولئك الذين اغتالوا الأخوين «جون» و«روبرت كيندي»، أو أولئك الذين حاولوا اغتيال الرئيس الأمريكي الحالي «رونالد ريجان»، والبابا «يوحنا بولس الثاني» الجالس الآن علي عرش القديس «بطرس» في الفاتيكان، لأن أولئك كانوا من الشاردين علي هوامش مجتمعاتهم.
وعلي خلاف ذلك، فإن الذين اغتالوا الرئيس «السادات» جاءوا من داخل المجري العام للأفكار والعقائد في مصر، ومن السابحين في أحد الروافد الظاهرة في التيار الإسلامي العارم والعنيف أحياناً، وذلك رافد فكر وعمل، جرت ينابيعه الأولي من صدر الإسلام، ثم تعمق مجراه باجتهادات اثنين من الفقهاء الكبار: «ابن حنبل» و«ابن تيمية»، ثم فاض علي عصرنا الحديث بتعاليم مجموعة من الرجال يبدأون بـ«جمال الدين الأفغاني»، وينتهون بـ«أبي الأعلي المودودي». قد يكون عصرنا مختلفاً، وقد تكون اجتهاداتنا محكومة بحقائقه، وقد تكون لنا ملاحظات وتحفظات علي «الأفغاني» و«المودودي» وغيرهما - لكننا في هذا كله لا نستطيع أن نسقط من حسابنا أننا أمام ظاهرة يحسب حسابها من ظواهر التيار الإسلامي العارم.
وهذه ملاحظة لها أهميتها.
* * *
وفي الواقع فإن تلك الأيام الأخيرة من عصر الرئيس «السادات»، حلت علي مصر وهي في حالة أشبه ما تكون بحالة عصيان مدني.
مخطئ - يا سيادة الرئيس - من يقول إن ما حدث في سبتمبر وأكتوبر من العام الماضي كان ثورة أو ثورة مضادة، أو شيئا شبيها بهما - بل كان ما حدث حالة تمرد عام، أو شيئا أشبه بالعصيان العام.
وكان المناخ كله تلك الأيام أحوال رفض تولد عنه غضب شديد ملأ نفوس كل الأطراف.
كان رئيس الدولة غاضبا، وكان الشارع غاضباً، وكان المسجد غاضباً، وكانت الكنيسة غاضبة، وكانت السياسة غاضبة، وكان الفكر غاضباً!
وتراجعت لغة الحوار واستحكمت لغة العنف، بادئة بحملة اعتقالات واسعة، حلا للبعض وصفها بالثورة، وبرزت المخالب وطالت الأنياب - باسم الديمقراطية وسيادة القانون - وامتلأت المعتقلات علي آخرها، والغريب أن السجون أطبقت بوابات الحديد علي كل من اعتبرتهم مصر - والعالم معها - رموزاً لكل القوي والمجموعات والتيارات الوطنية، كأن السلطة دخلت في صدام إلي النهاية مع كل الناس، ناسية أنه لا طاعة لسلطة إلا بمقدار القبول الاختياري من الأغلبية بها، وإلا بمقدار نزولها هي عند مقتضي إرادتهم.
كل فعل له رد فعل، مساو له في القوة، مضاد له في الاتجاه، هكذا تقول الهندسة، وكذلك أيضاً تقول السياسة. وهكذا فإن العنف أدي إلي العنف المضاد، وهذه تحقيقات حادث المنصة أمامنا تشهد بأن نية وخطة الاغتيال لم تتحرك ولم يرسم لها ويرتب لتنفيذها إلا بعد «اعتقالات سبتمبر 1981».
كنت أقول لمن ناقشت - وهم كثيرون - «لا تقعوا في نفس الخطأ، ما كان من اعتقالات، لم يكن «ثورة 5 سبتمبر».
وما يسمي بحادث المنصة وما توافق معه في صعيد مصر، لم يكن ثورة 6 أكتوبر.
وإنما كانت كلها مظاهر حالة عصيان، وحالة رفض، وحالة تمرد.
كان رأيي - يا سيادة الرئيس - أن هذا التوصيف مهم لأنه وحده يحدد حجم ما هو مطلوب عندما يتوقف العنف، وعندما تهدأ النفوس، وعندما تنزاح وتنجلي عاصفة الغضب التي ظلت تهب علي مصر قرابة ثلاثة شهور من خريف سنة 1981.
إذا كان ما حدث ثورة، فالثورة لها أحكامها من سقوط وظهور.
وإذا كان ما حدث تمرداً، فإن المطلوب يكون بمراجعة الطرق التي قادت إلي أبواب مسدودة.
بمعني أن التحليل السليم لأي حدث من الأحداث لا يتوفر بمجرد فهم ما كان، وإنما - قبله - بمحاولة فهم ما يمكن أن يكون.
هذه هي الصورة الأولي - يا سيادة الرئيس.
* * *
* والصورة الثانية؟
ـ الصورة الثانية - يا سيادة الرئيس - هي الأسابيع الأولي في عهدكم.
ماذا حدث فيها؟ وكيف حدث؟ ولماذا؟
أليس غريبا - يا سيادة الرئيس - أن مصر أولتكم ثقتها قبل أن تسمع منكم حرفا؟ - مع أن مصر عادة لا تمنح ثقتها بسهولة.
* إن مصر - وقد عشت التجربة - لم تمنح ثقتها لجمال عبدالناصر إلا بعد حرب السويس العظيمة، أي بعد أربع سنوات من العمل الشاق والمضني.
* كذلك - وقد كنت شاهدا - فإن مصر لم تقبل «أنور السادات» قبولا حقيقيا إلا في تلك الشهور من أواخر سنة 1977 وأوائل سنة 1978، وهي الفترة التي استطاع أن يقنعها فيها بحلمه الأسطوري: السلام مدخلا إلي الرخاء.
«ومن المفارقات أنه خلال حرب أكتوبر نفسها وبعدها - أن مصر لم تعط قبولها كاملا للرئيس «السادات»، لأن الجماهير بعد بدء المعارك ظلت تنتظر بقلق، وحين اطمأنت وصدقت أن معجزة العبور تحققت، فإن هذه الجماهير فوجئت بالثغرة، وما ترافق معها من أجواء تردد وتخبط استمرت أياما، ثم لم يكد الدخان ينجلي حتي وجدت الجماهير نفسها أمام اتفاق فك ارتباط منفرد علي الجبهة المصرية، وبدا أن التحالف العربي والدولي الكبير الذي خاض الحرب تنحل أواصره وتتبعثر قواه، وسري شعور بالتحفظ وقتها».
ولم تكن الصورة كذلك سنة 1977 «لحظة مبادرة القدس».
كان الحلم الأسطوري بالسلام والرخاء - أشبه ما يكون بشهقة العجز عن التصديق! «فيها عناصر الإثارة والدهشة والترقب والانبهار».
وعندما قام الرئيس «السادات» بمبادرته المشهورة في نوفمبر 1977، وعارضته فيها - كتبت أكبر المجلات في مصر وهي «أخبار اليوم» علي عرض صفحتها الأولي تعليقا عنوانه «واحد ضد مصر»، ورددت علي ذلك بمقال نشرته خارج مصر وقلت فيه «واحد من مصر وليس واحدا ضد مصر» - لكني أشهد أنني كنت ضمن قلة قليلة في ذلك الوقت، لأن التيار الكاسح لحظتها اندفع مع الحلم الأسطوري في السلام والرخاء.
وذلك سر تلك الشهقة المأخوذة بالمفاجآت - وقد استولت عليها تفاصيله، وجعلتها في انتظار نتائج كبيرة دون تحديد أو تخصيص!
..............
* إن مصر لم تمنح ثقتها بسهولة، ولا قبولها - إلا في حالتكم أنتم علي وجه التحديد.
إن الشعب المصري لم يمنحكم ثقته وقبوله نزولا علي أحكام المقادير، فقد كان في استطاعة الشعب المصري أن يواصل حالة اللامبالاة التي واجه بها لحظة المأساة علي المنصة، ولم تكن هناك قوة ترغمه علي غيرها لو لم يكن قد شعر في أعماقه بشيء آخر دفعة - علي عكس طبيعته - إلي الثقة والقبول فورا ودون انتظار.
يطول الحديث إلي ما لا نهاية لو أردنا أن نغوص في أعماق هذا الشعور الآخر الذي دفع إلي الثقة والقبول في تلك اللحظة، فقد كان ذلك حكما بالوجدان أكثر منه حكما بالعقل، إن العقل أحيانا مقيد مهما انطلق، والوجدان كثيرا ما يكون مصيبا حتي وإن تسرع، ووجدان فرد أو شعب يتصل بالضمير أكثر مما يتصل بالحساب.
إن علم الحساب يقول إن واحد زائد واحد يساوي اثنين، وهذا كل شيء، ولو حاول أحد تطبيق ذلك، فقد كان يمكنه بعلم الحساب أن يحدد المسألة علي النحو التالي:
رجل اختاره الرئيس «السادات» نائبا له، وبقي معه ست سنوات، ثم تقدم لمقعد الرئاسة في أعقاب مصادفة مأساوية - فما هو مجال الحركة المفتوحة له؟ وإلي أي مدي يستطيع؟
إن ضمير الشعب، ووجدانه اختلفا مع علم الحساب، في لحظة عظيمة الخطر وغير مأمونة العواقب ولا تحتمل التردد. ومرة أخري لفتت الظاهرة نظر العالم كله، فراح يتأملها مدققا ومحققا يحاول أن يتقصي الأسباب ويتعرف علي دواعيها.
ولقد أحسست - يا سيادة الرئيس - حتي ونحن وراء قضبان السجن، غائبين أو مغيبين من مجالات الحياة العامة في مصر - أن جماهير الشعب منحتكم ثقتها وقبولها بغير تردد.
وحين أتيح لي - ولغيري - أن نخرج من وراء القضبان كانت هذه الحقيقة أمام عيوننا واقعا لا يقبل الشك والجدل.
ولقد كنت واحدا من الذين قالوا في تلك اللحظة:
ـ ظلموه إذ حملوه ما لا يسمح بتحقيقه واقع الحال!
صاغوا أحلامهم وعلقوها سلاسل من ذهب في أعناقهم ومشوا بها فرحين مختالين، بعض الناس لهم الحق أن يشتكوا من فرط سوء نية الآخرين حيالهم، وقلائل لهم الحق أن يشتكوا من فرط حسن النية المسبقة فيهم، تفرش الطريق أمامهم بأوراق الورد والياسمين، ثم تنتظر منهم أن يتحركوا ويفعلوا!!
ماذا كانوا يريدون منكم - يا سيادة الرئيس - وما هو بالضبط ذلك الذي كان مطلبهم؟
ذلك سؤال حيوي، وربما كانت خير وسيلة للإجابة عنه هي محاولة جس نبض الرأي العام في استجابته - بالتأييد أو بالتساؤل - إزاء خطواتكم واحدة بعد الأخري.
* ونستعرض مواقف الاستجابة بالتأييد أولا:
أقول بغير تردد إن استجابة الرأي العام كانت تأييداً كاملا إزاء مجموعة من الخطا بدت في الشهور الأولي وكأنها - هي وليس غيرها - مؤشر اتجاه الحركة.
* الإطار الذي قدمتم فيه أنفسكم للناس في أول خطاب حين رأي الناس أمامهم واحدا منهم لا يمثل شخصية «رمسيس الثاني» ممسكا بمفتاح الحياة في يده، ولا يقلد «لويس الرابع عشر» صاحب القول المشهور: أنا الدولة!
رجلا يتصرف بتواضع، ولا يهرول وراءه رجل آخر بدرجة وزير ليحمل عنه أوراقه، أو ثان يمسك له بمقعده يزيحه تحته عندما يجلس، ثم رجل يتكلم من نص رصين مكتوب بغير انفعال، ولا افتعال!
..............
* القرار - والأسلوب الذي جري به تنفيذ القرار - في عملية الإفراج عن المعتقلين، فقد كان ذلك تصرفا لفت انتباه مصر، ولفت انتباه الأمة العربية، ولفت انتباه العالم، حين بدا أن هناك رجلا لم تأخذه عزة القوة أو حماقة القوة، بحيث أدرك في غير ادعاء أو استعلاء أن الرجوع عن الخطأ هو نفسه طريق الصواب.
كان يكفيه أن يقول ثلاث جمل لا أكثر:
«صفحة جديدة في تاريخ مصر - وحوار مفتوح مع كل القوي الوطنية - ووقت لأفكر».
وبها فإنه قال كل شيء!
* الأعصاب الهادئة التي جرت بها إدارة العلاقات مع إسرائيل في تلك الفترة الحرجة، ما بين اغتيال الرئيس «السادات» في 6 أكتوبر 1981، وإتمام المرحلة الأخيرة من الانسحاب من سيناء في 18 أبريل 1982. ومن وجهة نظري ولأسباب عديدة - ليس الآن مكانها - لم يكن يراودني شك في أن إسرائيل سوف تخرج من هذه الأرض في الموعد المقرر.
كانت إسرائيل في تلك الفترة تشن علي القيادة المصرية الجديدة حرب أعصاب، ومرة أخري كان الشعب المصري واعياً في تصرفه معكم، وجري بينكم وبينه حديث بالرموز والإشارات ترجمته في النهاية: «لا تقلق علي هذه الناحية من الخطوط، تفرغ بالكامل لمواجهة ما يحاولونه معك، وتصرف كما تري مناسباً، نحن نعرف ونفهم، ولن يحدث هنا شيء أو يرتفع صوت يسبب لك من وراء ظهرك ما يمكن أن يؤثر علي موقفك أو يحد من حريتك».
..........
* محاولة الإطلال علي الصورة العلمية للواقع الاقتصادي الاجتماعي في مصر بعد سنوات من الفوضي الشاملة والضباب الكثيف، وكان ذلك عن طريق مؤتمر ضم صفوة من المهتمين والمتخصصين في شؤون الاقتصاد في مصر من مختلف مدارس العلم والفكر.
ولقد كانت لي ملاحظة علي هذا المؤتمر أبديتها في حينه ومباشرة، فقد ذكرت مباشرة أمامكم أن أي دراسة لا تحقق المطلوب منها إلا علي ضوء اختيار سياسي، يعبر بدوره عن اختيار اجتماعي. فالعلوم الاجتماعية - وأولها الاقتصاد - ليست محايدة، والحقيقة الاجتماعية كما يقولون لا تعيش في فراغ، بل إن الفراغ ذاته يتخذ شكل الوعاء الذي يحتويه، سواء كان هذا الوعاء بحجم فنجان قهوة أو اتسع بحدود وطن بأكمله،
وبالتالي فقد كان بعض التحديد مطلوباً عن طريق الاختيار، ومع ذلك فلقد وصل المؤتمر إلي نتيجة لا بأس بها، إذ اتضحت بعده - ولأول مرة منذ سنوات طويلة - أرقام كثيرة مخفية عن أصحاب الحق في معرفتها، بمعني أنها كانت سراً علي جماهير الشعب المصري التي لم يكن لديها سوي ما يقال لها من أن الرخاء قادم: سنة 1980!
(وذلك يعطينا - يا سيادة الرئيس - درساً بليغاً في التعامل مع الشعوب. لأن هناك ممارسة في العمل السياسي المصري تتصور أن الخداع سلاح فعّال مع شعب يتصوّرونه ساذجاً.
وقد انتظر الشعب المصري سنة الوعد بالرخاء: سنة 1980، وانتظر صابراً لا يتململ، ولم يجئ الرخاء في موعده المضروب، وفي السنة التالية - 1981 - كانت مصر أمام خريف الغضب!
هكذا التاريخ، يتحدث عنه بعض الناس وكأنه غيب مجهول، والحقيقة أنه فعل له - في نهاية المطاف - قوة قانون).
..........
* السماح لأحزاب المعارضة التي تعرضت للضرب العنيف أو التبريد العميق - فيما سُمي بثورة 5 سبتمبر - بالعودة ثانية إلي المسرح السياسي، ومعها أدواتها في التعبير عن نفسها بحقها المشروع والقانوني في صحف ومنشورات، ثم لقاءاتكم مع شخصياتهم لتبادل الرأي فيما ترونه ضرورياً ولازماً.
لقد كان الحكم - ولا يزال - يا سيادة الرئيس - فردياً بطبيعة الظروف في مصر، رجل واحد علي القمة يقرأ ويسمع ويشاور ويحاور، وهو في آخر النهار يتخذ قراره بنفسه.
وبالطبع فإن هناك الطموح إلي مرحلة من التطور تسمح بوجود مؤسسات لا تستمد سلطتها في النهاية من رجل واحد علي القمة، بل تملك بنفسها إمكانيات وسلطات حركتها الذاتية، لكنه حتي تجيء هذه المرحلة من التطور، فليس هناك ما يدعو إلي تسمية الأشياء بغير أسمائها، وإلا كنا نخدع أنفسنا ولا نخدع أحداً غيرنا.
نعم، الحكم فردي، وهذا خطر، وقد نقول إنه ضرورة مرحلة ينبغي اجتيازها، وبالفعل فقد جاء الوقت الملائم لتجاوزها.
لكنه إذا كان الحكم الفردي خطراً، فإن الحكم الشخصي كارثة.
وقد عرفنا «الحكم الشخصي» بعد «الحكم الفردي».
والقرار في الحكم الفردي يصدر عن رؤية عامة قابلة بالطبع للصواب والخطأ - وأما القرار في الحكم الشخصي فإن الحدود معه تضيق، إذ يختفي إلهام الرؤية العامة ليحل محلها همس الوحي المباشر!
..........
* وزاد فوق هذا كله، وأضيف إليه تأييد الناس لكم في دعوة إلي الطهارة، تعهدت باستئصال الفساد، وعدم التستر عليه بعد أن سري واستشري في أجواء تغري به، وتساعد عليه، وتبسط يد الحماية فوقه.
* * *
سيادة الرئيس
لقد فرغت الآن من عرض استجابات الرأي العام بالتأييد لبعض خطواتكم، وأنتقل الآن - بإذنكم وسماحكم - إلي الجانب الآخر، جانب الاستجابة بالتساؤل أو بالتردد، وأستعرض أمامكم نماذج مما يجري ويدور علي هذا الجانب الآخر.
..........
* لقد بدأت التساؤلات - يا سيادة الرئيس - حين فوجيء الناس بقبولكم رئاسة الحزب الوطني.
لقد كان هناك في تاريخ مصر حزب يحمل هذا الاسم أسسه «مصطفي كامل»، ثم خلفه علي رئاسته «محمد فريد»، وكانت لهذا الحزب سياسات معينة، وكانت له مناهج معروفة، وبعد ذلك التاريخ فإن أي محاولة لوصل ما انقطع - خصوصاً إذا لم تكن هناك صلة لا بالاستمرار ولا بالسياسات ولا بالمناهج - عملية تلفيق للتاريخ. مع اليقين بأن حقب التاريخ ليست قطعاً من القماش تشبكها ببعضها إبرة وخيط!
..........
* اتصل بذلك أن الذين يضمهم الحزب الوطني الآن هم في مجموعهم نفس الناس الذين ضمهم من قبل الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي ثم حزب مصر، ومعني ذلك أن هذا الحزب الوطني في لونه الأخير - اعترفنا بذلك أو لم نعترف - تجمُّع لأصحاب المصالح القائمة، أو فلنقل ببساطة إنه حزب السلطة، وحزب أي سلطة، وتلك ظاهرة عادية في معظم بلدان العالم الثالث لم تنفرد مصر بها، وليس هناك ما يدعونا إلي لوم أحد عليها، بمن فيهم أصحاب الشأن الذين جمعهم الحزب، فتلك أحكام الظروف.
لكننا لم نكن في ظرف عادي - يا سيادة الرئيس - وإنما كنا في ظرف يقتضي حضور مصر كلها، ولقد كان ذلك هو المغزي الحقيقي لحقيقة التفاف جماهير الشعب حولكم، من قبل أن تصدر عنكم كلمة واحدة. لقد اختاروكم - يا سيادة الرئيس - لمعني أو معان ليس بينها علي وجه القطع، استمرار السياسات والممارسات التي سادت خريف الغضب.
وليس دقيقاً - يا سيادة الرئيس - أن يقال إن الحزب الوطني هو الذي قام بعملية انتقال السلطة إليكم يوم 6 أكتوبر. لقد تم انتقال السلطة مع نفس اللحظة التي تبين فيها بعد دقائق من حادث المنصة أن جهاز الدولة قائم بعمله، وأن تروسه جاهزة لمواصلة الدوران، وليس خافياً أن عدداً من الجماعات المنتمية إلي الحزب الوطني كانت في حالة فرار طوال أيام الانتقال، ولعدة شهور بعد الحادث كانت هذه الجماعات لا تعرف كيف تلملم أطرافها وأعصابها، ولا إلي أين تتجه، أو إلي من تتجه.
هل أقول ما هو أكثر - يا سيادة الرئيس - هل أقول إن كل الأحزاب القائمة - سواء في ذلك الحزب الوطني أو أحزاب المعارضة - ظاهرة ضبابية لأنه لا يعرف أحد بالضبط ما تمثله أو حجم ما تمثله. لأنها جميعاً نشأت بقرار شخصي: يمين ووسط ويسار. اختراع وصفناه بالمنابر أولاً، ثم استعرنا له وصف الأحزاب فيما بعد.
إن الأحزاب الأخري - غير الحزب الوطني - حزب السلطة - اضطرت تحت ضغط الظروف أن تحدد مواقفها أكثر، لأن ذلك كان سبيلها الوحيد للوصول إلي الناس. أما الحزب الوطني فلم يكن يواجه مثل هذا الاضطرار، لأن مركبة السلطة كانت وسيلته السريعة في التمكين لنفسه مع واقع حال يؤكد أن هذا الحزب وأي حزب غيره في مصر كَمَّ مجهول في حجمه وقوته، بل لقد كان هناك من يزعمون أن المجهول من كَمِّ هذه الأحزاب حجماً وقوة لا يقتصر علي النسبة والتناسب بينها، وإنما يمتد إلي ما هو أكثر، أي إلي حجم ما تمثله مجتمعة علي الساحة المصرية كلها، وقد كان هناك من رأوا - ومازالوا - أن هناك قوي رئيسية غائبة تماماً، فهي موجودة في المجتمع بالفعل، لكن التنظيمات القائمة لا تحتويها ولا تمثلها.
هكذا أثارت رئاستكم للحزب الوطني تساؤلات، وليس مستساغاً أن يقاس الوضع بأمثلة مما يجري هناك، مثل أن يحكم «فرانسوا ميتران» من قصر الإليزيه من موقع رئاسته للحزب الاشتراكي الفرنسي، هناك سمحت مراحل التطور بديمقراطية حقيقية، وهناك حدث الانتقال من «جيسكار ديستان» إلي «فرانسوا ميتران» عن طريق صناديق الانتخاب، وهناك كثير غير ذلك يطول شرحه، ولا مجال للمقارنة، بل ولا داعي للمقارنة، لأن اختلاف مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي لا تسمح به، وإلا كنا مجرد مقلدين، فضلاً عن أنه إذا أردنا أن نكون كذلك، فلا يجوز أن ننتقي ما يصادف هوانا ونعرض عن غيره، لأن التقليد بالانتقاء إجحاف، وإذا لم نكن قادرين علي التقليد في كل شيء، إذن فنلزم ظروفنا صراحة، قائلين إنه لا يكلف الله نفساً إلي وسعها.
وأعرف أنه قيل لكم - يا سيادة الرئيس - والعهدة علي الرواة - إنه إذا طال ترددكم في قبول رئاسة الحزب، فإن هذا الحزب مُعرّض للانهيار، وكان ذلك في حد ذاته سبباً كافياً كي تُعرضوا عن قبول رئاسته مهما كانت الضغوط.
إن المفروض في الحزب السياسي أنه يناضل لكي يصنع السلطة، وليس المفروض من حزب أن يتوسل إلي السلطة لكي تصنعه.
..........
* عادت التساؤلات مرة أخري عند تشكيل الوزارة الجديدة.
كان كل بند من التركة التي ورثتموها أشبه ما يكون بقميص من الحديد يعطل الحركة، بل يكاد يعوقها تماماً.
الحالة الاقتصادية والاجتماعية بأرقامها المزعجة، ومدلولات هذه الأرقام في حياة غالبية الطبقات - قميص من حديد.
حالة العلاقات مع إسرائيل - قميص من حديد.
حالة العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية - قميص من حديد.
حالة العلاقات مع الاتحاد السوفيتي - قميص من حديد.
حالة العلاقات العربية - قميص من حديد.
وبهذه القمصان الحديدية كلها، فقد كان قبول التحدي يتطلب أقوي وزارة في تاريخ مصر، خصوصاً إذا كنا منذ البداية نواجه حالة تمرد عام، عصيان عام في مصر، وقعت في إطارها أحداث حركت الغضب من الاعتقال إلي الاغتيال!
ولست أقول إن الوزارة الحالية هي أضعف وزارة في تاريخ مصر، ولكني أقول ببساطة إنها ليست أقوي وزارة في تاريخ مصر.
وأليس ملفتاً للنظر أنه مع تسليمنا جميعاً بأن المشكلة الاقتصادية هي رأس القائمة في أولوياتنا؟، فإن المجموعة الاقتصادية الوزارية تغيرت ثلاث مرات في أقل من سنة واحدة!
ولقد ضاعف من خطورة هذا الموقف - يا سيادة الرئيس - إحساس الناس بأن مؤسسة الرئاسة، وهي أخطر المؤسسات في نظام رئاسي، تقع أعباؤها عليكم شخصياً، إلا واحداً أو اثنين علي أكثر تقدير من المساعدين، وربما كان - أو كانا - من أخلص الناس لكم، لكني واحد من الذين يرون - بكل الاحترام والتوقير - أن ذلك ليس كافياً.
إن مؤسسة الرئاسة في الولايات المتحدة - حيث النظام رئاسي مباشر - تضم عشرات من الأجهزة يعمل فيها مئات من أكبر العقول في الولايات المتحدة.
ونفس الشيء في مؤسسة الرئاسة في فرنسا - وحيث النظام رئاسي برلماني.
هناك بحكم النظام تقوم مؤسسة الرئاسة بتحديد السياسات التي يمثلها الرئيس بحكم تعبيره عن استراتيجيات العمل الوطني التي أوصلته أصوات الناخبين علي أساسها إلي مقعده في البيت الأبيض أو في قصر الإليزيه.
ثم إن مؤسسة الرئاسة - بعد تحديد السياسات - تقوم بمتابعتها ومراقبة تنفيذها، وتلك مسؤوليات جسيمة لا يقوم بها إلا جهاز قادر علي متابعة عمل جهاز الحكم في كل المجالات: الاقتصادية والاجتماعية، السياسية الدولية والأمن القومي، العلاقات العامة واتجاهات الرأي العام، دستورية القرارات وقانونيتها. مؤسسة الرئاسة - باختصار - هي محرك الاتجاه العام لسياسة الدولة.
بل إن نفس الشيء إلي حد ما يحدث - يا سيادة الرئيس - في النظم الملكية الديمقراطية، فمكتب رئيسة الوزراء في بريطانيا جهاز كامل يتحرك حولها.
وأعرف - يا سيادة الرئيس - طبيعة الحساسيات التي تحيط - أو يمكن أن تحيط - بجهاز كامل وقوي لمؤسسة الرئاسة في مصر. وأعرف أن لديكم شخصياً تخوُّفاً من تكرار ما سمعوه عن تجارب سابقة. لكن الضرورات تفرض نفسها، ثم إن دروس الماضي أمام الجميع، ومن حق الكل - بل ومن واجبهم - أن يستخلصوا منها ما يحقق الهدف الأساسي المطلوب ويتجنب محاذير السوابق في نفس الوقت.
ولقد تقول - يا سيادة الرئيس - وقد سمعت ذلك مباشرة منكم - إن الوزارة هي نفسها جهاز الرئاسة، ولكن هذه فرط حساسية لا تسمح بها الظروف، لأن المسؤولية عليكم أنتم يا سيادة الرئيس، ولقد حمّلكم الشعب إياها، ليس فقط بعدد الأصوات، ولكن بهذا الإطار المثير للعجب والإعجاب الذي أحاطكم به من أول يوم.
ولقد حدث فعلاً - يا سيادة الرئيس - أن تقدمت وزارة إلي مجلس الشعب بميزانية فائض وأقرها المجلس.
ثم تقدمت وزارة أخري - تكاد تكون هي نفس الوزارة - إلي مجلس الشعب بميزانية عجز وأقرها المجلس.
وإذن فنحن - بصرف النظر عن كل الحساسيات - في حاجة إلي جهاز كامل قادر علي التوجيه والمتابعة والسؤال، وليس المساءلة، وإن كانت المساءلة في النظام الرئاسي مقبولة.
هناك سلطة واحدة في الوضع الراهن وفي هذه المرحلة من التطور - وكما ذكرت من قبل يا سيادة الرئيس - فإننا نطمح إلي تغيير هذا الوضع بحيث تتعدد السلطات، ولكن الواقع يفرض نفسه، وليست هناك جدوي من التصرف علي أي أساس آخر، إلي أن يتحقق التغيير، وتهيأ له ظروف التطور الاقتصادي والاجتماعي في الوطن (وهذه عملية تنمو بتجربة كل يوم).
..........
* لقد زادت التساؤلات مرة أخري لتدور حول عملية التصدي للفساد والإفساد، فقد بدت هذه العملية في بعض الأوقات، وكأن إجراءاتها تقلُصات، يظهر الإحساس بها لحظة، ثم يختفي الإحساس بها لحظة أخري، ويصحو فعلها يوماً، ثم يغفو في اليوم التالي.
لعله كان تقدماً في حذر، أو لعله كان اقتراباً علي استحياء، لكن هذا الإقدام والإحجام - إلي جانب ما فيه من زوايا أخري - خطر محقق، لأن جماعات الفساد والإفساد - في مصر وفي غيرها - أشبه ما تكون بعصابات المافيا المشهورة في الولايات المتحدة وإيطاليا.
تجمعات للنهب المنظم، بينها علاقات معقدة من المشاركة والمواجهة، لأن بعض الغنائم قابل للقسمة، وبعض المغانم مطلوب للاحتكار، وكذلك يحل الوئام، ثم فجأة يفلت الزمام، وتجري تصفية الحسابات القديمة والجديدة بالنار والدم.
ومع ذلك فعائلات المافيا جميعاً - رغم ما بينها - تقف صفاً واحداً ضد القانون. وأفرادها يعرفون قواعد اللعبة إزاء هذا القانون - فإذا رأتهم عيونه فهي معركة إلي النهاية، وإذا قصرت يده لسبب فإن أيديهم هم لن تقصر عن ممثلي هذا القانون، وإذا وقع الالتفات حولهم - ولو بمصادفة - فإنهم لا يقدرون علي الاطمئنان، وإنما يقدرون فقط عندما يتم قلع العيون التي رأتهم، وقطع الأيدي التي يمكن أن تمتد إليهم، وانتقال الالتفات منهم إلي بعيد عنهم، ولا تحتمل الأمور مساومات أو أنصاف حلول.
وربما تلاحظون - يا سيادة الرئيس - أنه حين جري الاقتراب من إحدي جماعات المافيا المصرية، فإن بقية الجماعات الأخري لم تسكت رغم التيارات الدموية القديمة بينهم وبين بعضهم، وكان يقينهم - وهو منطقي - أن بداية أي طريق مؤدية حتماً إلي آخره، ولم يسكتوا، ولن يسكتوا.
* ولقد بدأوا بإظهار الخوف علي الاستقرار.
* وانتقلوا إلي إبداء القلق علي الرخاء، والحرص علي المستثمرين.
* ووصلوا إلي إبداء الحرص علي تماسك السوق.
* وأخيراً كانت صيحتهم «ثم لا تنسوا واجب الوفاء».
كل ذلك دون أن يحددوا: أي استقرار؟ - ورخاء من؟ - وما حكاية هؤلاء المستثمرين؟ - ثم ماذا هذه السوق التي ينبغي المحافظة علي تماسكها؟ - وكانت الطامة الكبري دعوي الوفاء، وأليس فاضحاً ألا تجد المافيا في النهاية غير عمائم الفضيلة ومكارم الأخلاق؟!
كانت تلك خطوتهم الأولي لرد محاولة الاقتراب منهم بعيون القانون ويديه. ثم توالت الخطي.
..........
* ولقد ألحت التساؤلات علي الناس عندما تكررت نغمة أنه «ليس هناك حل قريب لمشاكل الناس»، وبأنه «لا حل مع استمرار الزيادة في عدد السكان»، وأنه «ليس لدي أحد عصا سحرية»، وبأنه «لو جاءت حكومة الملائكة لما استطاعت أن تفعل شيئاً يرضي الناس».
ومع ما في مثل هذه التعبيرات من ادعاء «الواقعية» - إلا أنه يبقي بأمانة أن المسؤولية الأولي والأخيرة لأي حكم هي البحث عن طرق وبدائل وحلول لمشاكل الوطن وناسه، وكلها مشاكل ظاهرة صارخة أمام كل من تقدم بنفسه للمسؤولية عن الوطن والناس.
وأريد أن أكون واضحاً ومحدداً في هذه النقطة:
- الشعب المصري يدرك أن عهد الإجراءات الكبيرة قد مضي، لأن الظروف وأحكام الظروف تضع علي مصر الآن قيوداً لم تكن هناك في مرحلة سابقة.
- كذلك فإن الشعب المصري يدرك أن عهد الصدمات الكهربائية قد مضي أيضاً.
- والشعب المصري - فيما أظن وفيما أحس - لم يعد يريد أن يسمع أحلاماً وأوهاماً.
لقد كان لإحدي المجلات الأمريكية الكبري تصوير دقيق في وصف أحوال مصر في السنوات الأخيرة، وقد ورد تصوير هذه المجلة وهي «نيوزويك» قبل أسابيع، وللعلم فإن «نيوزويك» كانت ومازالت مجلة صديقة للرئيس «السادات»، وكان من أسباب زهوه أحياناً كثيرة أن صورته ظهرت علي غلافها ست مرات، ومع ذلك فقد اضطرت «نيوزويك» إلي أن تقول في ذكري السنة الأولي بعد مأساة المنصة: «إن الشعب المصري في عهد «أنور السادات» كان أشبه برجل تزوج ملكة جمال العالم، هي تسحبه كل يوم إلي مهرجان وكل ليلة إلي سهرة، وليس هناك من يرعي شؤون البيت!».
لم يكن ذلك هو كل تعليقها، فقد كان بعض ما فيه قاسيا، وبينه: «إن ذلك العصر كان عصر إسراف وفساد»، وكان ذلك محزنا، لأن الذين شجعوا العصر علي ما انجرف إليه، راحوا بعد أن وقعت الواقعة ينحون عليه باللائمة، ويتخذون لأنفسهم مجلس القضاء، في حين أنهم كانوا ـ بغوايتهم ـ سبب البلاء أو ضمن أسبابه!
علي أن تلك قصة أخري.
المهم أن الشعب المصري علي استعداد لسماع الحقائق الواقعية، لكنه أيضا يريد أن يري أملا يتوجه إليه، يريد ـ كما يقول التعبير المشهور ـ «أن يري ضوءاً في آخر النفق المظلم» ـ تلك مهمة أي نظام وأي حكومة، وإلا ضيعت السلطة مقتضي مسؤوليتها بل وداعي ضرورتها!
..............
* راحت التساؤلات تلح بهواجسها إزاء بعض الممارسات في السياسة العربية والدولية.
ـ لم يتحمس كثيرون ـ فيما أظن ـ لامتناع مصر عن التصويت علي مشروع قرار عرض أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 5 فبراير 1982، كان مشروع القرار يدين إسرائيل للطريقة التي تتصرف بها ضد قواعد السلوك الدولي والقانون الدولي كما تجلت في ضمها لمرتفعات الجولان، ولم يكن مقبولا أن تصوت مصر بالامتناع، في حين تصوت اليونان بالموافقة، وقد يقال إن مصر لم تكن راغبة في استفزاز إسرائيل قبل إتمام الجلاء عن سيناء، وحتي لو كان ذلك صحيحا، فلقد كان من الأفضل لمصر أن تتغيب عن حضور جلسة التصويت ولا تسجل علي نفسها موقف الامتناع مثل جامايكا والمكسيك!
ـ ولم يتحمس كثيرون ـ فيما أظن ـ للموقف الرسمي من أحداث لبنان، وحين بدأ الغزو الإسرائيلي، وأحاطت قواته ببيروت، فلقد كنت واحدا من الذين راودتهم الأحلام بأن تقف مصر موقفها الصحيح دون عصبية تعرضها لما لا تريد أن تتعرض له الآن، أو حتي في المستقبل.
وصحيح أن مصر ـ خلافا لما فعله كثيرون غيرها ـ لم تعد الفلسطينيين بشيء لا تستطيع الوفاء به، ومع ذلك فإن الصمت ليس سياسة، وكان في ظني أن مصر ـ مع ذلك ـ أمامها خيارات وبدائل تعبر بها عن نفسها أمام تاريخها وأمام أمتها العربية وأمام العالم.
«وقد تصورت ـ مثلا ـ أن يوضع حد لتدفق السياح الإسرائيليين إلي مصر، ويومها ـ يوم غزو لبنان 6 يونيو 1982 ـ كان في مصر 42 ألف سائح إسرائيلي بالضبط، وكان وجودهم في شوارع القاهرة والصعيد استفزازا، أو داعيا إلي استفزاز يترتب عليه حادث لا لزوم له، وكان في الإمكان ـ بهدوء وبغير عصبية ـ تقليص العدد بمطلب أمن هؤلاء السياح، وهو مطلب معقول.
وتصورت ـ مثلا ـ أن مصر كانت تستطيع أن توقف شحنات البترول المصري إلي إسرائيل مادامت المعارك مستمرة، وإذا كنا نعطي لإسرائيل 2 مليون طن من البترول سنوياً (أي 14 مليون برميل) - فمعني ذلك أن هناك عدة ناقلات تجيء كل أسبوع لحمل البترول المصري إلي إسرائيل، ولم يكن في مقدور أحد أن يلوم، فلم يكن معقولا ولا متصورا أن نواصل إمداد إسرائيل بالبترول بينما قواتها تتقدم وتحاصر عاصمة عربية وقيادة ثورة عربية.
وتصورت ـ مثلا «إجراء استدعاء السفير المصري في إسرائيل، لكن هذا الإجراء ـ لسوء الحظ ـ تأخر».
ـ ولم يتحمس كثيرون ـ فيما أظن ـ لمشهد وزير خارجية مصر يسلم سفير الولايات المتحدة كل يوم شكوي إلي الرئيس الأمريكي «رونالد ريجان» ولو كانت الشكاوي مجدية، لكان لغيرنا ـ الإخوة العرب ـ سبق فيها، لأنهم يملكون من وسائل الشفاعة لدي الرئيس الأمريكي ما لا نملكه نحن!
وكانت تلك كلها مجرد أمثلة، عملية استشهاد وليست عملية حصر.
* * *
مجمل القول في أسباب التأييد وأسباب التحفظ ـ يا سيادة الرئيس ـ ما يلي:
ـ بصفة عامة فإن الاتجاهات مفهومة.
ـ وبصفة عامة أيضا فإن الإيقاع بطيء.
ـ وبصفة عامة فإن السياسات غير محددة.
ومشكلة ذلك كله أن الفرص السانحة قد تفلت، لأن بطء الحركة وعدم الوضوح، مما يعرض المسيرة لقطع الطريق عليها، والإغارة علي أجنابها ومؤخرتها وحتي مهاجمة المقدمة.
إن الناس جميعاً يرون الغيلان المتربصة علي الطريق، وكلها غيلان متوحشة: «الديون» غول، و«التضخم» غول، و«الإرهاب» غول، و«إسرائيل» غول، حتي «المساعدات الأمريكية من القمح أو السلاح» كلاهما زوج من الغيلان!
وأنتم ـ ونحن شعبكم معكم ـ علي الطريق الوعر، ولابد أن يكون هناك ضوء في آخر النفق، وتلك ضرورة، وفوق الضرورة، فتلك واجبات أي نظام وحكومة.
أطلت يا سيادة الرئيس، لكن حقنا عليك كثير، وحقك علينا أكثر.
وكان بودي أن أريحكم وأستريح، لكن الحديث مازالت له بقية.
تمهيد كان صلب المقال الثالث مجموعة من الإشارات تومئ إلي فجوات ظهرت أمام الأسئلة الكبيرة عن : ماذا؟ - كيف؟ - ومتي؟ وتركز السياق بالدرجة الأولي عن ظواهر تستحق الاهتمام من جانب النظام، حتي لا يتفاقم أمرها، وتتصاعد من حدود الظاهرة إلي حدود الأزمة! كان الداخل المصري في حالة حيرة شديدة، وأولها الحيرة علي طريق التنمية والمسؤولية عن إدارتها اقتصادياً واجتماعياً بأقصي كفاءة وعدل ممكنين، بما يحقق الآمال العريضة لزمان ما بعد «آخر الحروب». كانت آمال الناس عريضة، لكن ما رأوه فعلاً تناقض مع ما انتظروه حلماً.
وكانت تلك بداية قلاقل سبقت ابتداءً من مظاهرات الطعام (18-19 يناير) سنة 1977، إلي مأساة المنصة (6 أكتوبر) سنة 1981، ثم انتظارهم بالأمل لما هو قادم!
وفي ذلك اللقاء الذي أشرت إليه مع الرئيس «مبارك»، فقد كنت أثرت اقتراحين، ربما يكون فيهما ما يساعد الرئيس علي مهامه:
- تعزيز جهاز الرئاسة بمجموعة من الخبراء - وفي البلد منهم وفرة - ونحن هنا لا نحتاج أن نخترع، وقد يكفي أن ندرس ماذا يفعلون في البيت الأبيض - مقر الرئيس الأمريكي - أو في البيت رقم 10 داوننج ستريت - مقر رئيس الوزراء البريطاني.
- واقترحت عليه أيضاً أن يستعين بتقليد جري عليه الرئيس الأمريكي «روزفلت» - حتي في زمن حرب عالمية - ثم سار عليه الرئيس «كنيدي»، وهو يطرح علي أمريكا سياسة الآفاق الجديدة، والاقتراح أن يقوم الرئيس مرة كل شهر بدعوة ما بين عشرة إلي اثني عشر رجلاً وامرأة من جميع مجالات العمل الوطني من النقابات المهنية، والعمالية، وأساتذة الجامعات، ورجال الهيئات القضائية والدبلوماسية، ورجال الأعمال، وكبار موظفي الدولة، وقادة القوات المسلحة، وقادة البوليس،
وكان ظني أن الرئيس الجديد لم يتعرف علي العمل العام بما فيه الكفاية، ومن المفيد - يقيناً - أن يسمع الناس، وأن يسمعوه في جلسات حميمة، مع التنبيه إلي أن تلك لقاءات تعارف، وليست مؤتمرات صحفية تُذاع وقائعها علي الملأ - وحتي إذا حدث تسرب لشيء قيل في حوار، فإن الضرر محصور - بل ربما كانت الفائدة أوسع في بعض الأمور.
نوفمبر 2003
نوفمبر 1982
سيادة الرئيس
ليس صادقاً معكم - وليس صادقاً مع مصر - من يزعم أمامكم اليوم أن الرأي العام مرتاح أو مطمئن.
مثل هذا الزعم أبعد الأقوال عن الصدق - أقربها إلي غيره.
وليس صادقاً معكم - وليس صادقاً مع مصر - من لا يعترف بصراحة وأمانة أن كثيرين لا يعرفون إلي من يتجهون بما لديهم من أسباب التوجس والقلق - إلا أنتم - مهما بدا ذلك تجنياً يحمل الأشياء فوق قدرتها، ويحمل الرجال فوق طاقتهم. فهذه حقيقة سياسية لا مجال للدوران حولها، مع التسليم بأن حتي الحقائق أنواع - وإن بدا ذلك تناقضاً في استخدام الكلمات!
* فهناك الحقائق العلمية مثلاً، وهي قوانين ثبتت معادلاتها وأحكامها في الطبيعة والحياة.
* وهناك الحقائق التاريخية مثلاً، وهي كشف مستمر يضيف إليه البحث والدرس إضاءة جديدة كل يوم.
* وهناك الحقائق السياسية، وهي اعتقاد الناس بصحة وقائع أو أفكار راجت وشاعت!
وأركز الآن - بإذنكم - علي الحقائق السياسية بسبب تأثيرها الفادح علي صُناع القرار وأجواء صناعته، بمعني أنه حين يأخذ الاعتقاد السائد لدي الرأي العام في أي بلد من البلدان منحي معينا - فتلك حقيقة سياسية لابد من التعامل معها، ويستوي الدليل والظن هنا لأن المجال ساحة سياسة، وليس قاعة محكمة!
ومع أن الرأي في مجال السياسة ليس لقضاة يطبقون مواد قانون محايد، أو يفترض أن يكون محايداً، وإنما لجماهير تحتكم إلي مصالحها وآمالها، وإلي تجاربها ومشاعرها، وإلي مخاوفها ومواريثها. فإن الرأي العام يملك في النهاية سلطة إصدار الأحكام، قضاة المحاكم بواسطة نطق قضائي، والرأي العام بواسطة نطق سياسي أهم وأخطر، ففي حين أن نطق القضاة يخص أفراداً بذواتهم، فإن نطق الرأي العام يمس نظماً بأكملها!
* * *
وأريد أن أتحفظ أمامكم - ياسيادة الرئيس.
فأنا لا أدعي - أولا - نيابة عن الرأي العام، لأني لا أملك هذا الحق، وليست لدي وسائله، بل إنني لا أعترف به لنفسي ولا لغيري، خصوصاً في غياب أساس علمي لقياس اتجاهات الناس، وفي غياب مؤسسات لها أهلية هذا الحق.
وثانياً: فإنني واحد من الذين نادوا باستمرار بالتفرقة بين الرأي العام والرأي الخاص، لأن السياسة في مصر كثيراً ما خلطت بين الرأيين، فأحاطت بصانع القرار جماعات الضغط من أصحاب المصالح يتوسلون للتأثير عليه بادعاء التعبير عن رأي عام، بينما هم في الحقيقة يعبرون عن مساحة محصورة في نطاق ما يمسهم مباشرة، وكذلك يخلطون بين الرأي العام والرأي الخاص!
وثالثاً: فإنني أعترف أنه ليس في مقدور إنسان أن يدعي الحياد بحيث يجوز له أن يراقب الحركة العامة في مجتمع كبير ومعقد حوله - كالمجتمع المصري - ثم يتوهم أن ما تجمع لديه صورة كاملة للواقع، أو الأقرب إليه، لأن كل إنسان في موقعه يري ما يسمح له هذا الموقع برؤيته وليس أكثر، وبالتالي فإن رصده للحركة العامة من حوله يصدر عن نقطة محددة. وفي الحقيقية فإنني لا أتصور الحياد لصاحب رأي، وإلا كان معني ذلك التوهم بإمكانية الانسلاخ عن الزمان والمكان، وعن التاريخ والحياة، وكله في رأيي من المستحيلات - واقعاً وفكراً.
ومع ذلك كله، ورغم هذه التحفظات وقد سجلتها علي نفسي بنفسي - فإنني أظن أنه يبقي لأي واحد من هؤلاء الذين طال عهدهم بميادين العمل العام، وامتدت عشرتهم مع الناس والحوادث - حاسة معينة في رصد ما يجري من حولهم، خصوصاً إذا كان ذلك صميم عملهم، وخصوصاً إذا انتفي الظن بوجود مصلحة ذاتية تدفعهم.
وأدعي - يا سيادة الرئيس - أنني قريب من هؤلاء. فقد قضيت في ميادين العمل العام قرابة الأربعين سنة، ثم إنني صحفي، وصحفي لم يعد يطلب إلا حقه في حب الوطن - وواجبه في الحرص علي مستقبله.
هكذا - يا سيادة الرئيس - فإنني أظن أو علي الأقل أتصور - أن ما أعرضه عليكم هو صورة لحركة الرأي العام المصري - أشبه ما تكون بمحاولة التقاط صورة، قد تكون جزئية، وقد يكون ضوؤها غير كافٍ لإظهار تفاصيلها، لكنها فيما أرجو - غير بعيدة عن الواقع وليست منقطعة الصلة به!
* * *
سيادة الرئيس
أستأذنكم - إذا سمحتم - بأن أعود إلي الأمور عند نقطة بدايتها الأولي، ثم أنتقل منها خطوة بعد خطوة لنري كيف تعاقبت الحوادث، وكيف تحركت اتجاهات الرأي العام.
هنا، لابد لنا - يا سيادة الرئيس - أن نتوقف أمام صورتين:
- صورة السنوات الأخيرة من عهد الرئيس «السادات».
- وصورة الأسابيع الأولي من عهدكم.
* الصورة الأولي - أولاً:
سوف أتجنب بالقطع - في حديثي عن صورة السنوات الأخيرة من عهد الرئيس «السادات - أي وصف أو تعبير أو لفظ لا يليق بالمقام، لأن الأدب مع الناس فضيلة وحقهم واجب، واحترام الحياة والموت فريضة، لهذا فإن ما أقوله وبمنتهي الموضوعية، ملخصه أن جماهير واسعة من الشعب المصري أحست في السنوات الأخيرة من عصر الرئيس «السادات» أن هناك فجوة واسعة بين ما يقال لها الواقع الذي تعيشه كل يوم.
وليس صحيحاً - يا سيادة الرئيس - ما يزعم به بعضهم من أن شواغل الناس كل يوم بعيدة عن السياسة. بل الصحيح أن الناس في الدنيا كلها - حتي في الصحاري والغابات - يصحون وينامون، ويأكلون ويتنفسون - سياسة.
وقد يكون مناسباً أن نتفق هنا علي تعريف مقبول للسياسة، والتعريف المقبول في ظني: «أن السياسة هي تنبيه أي شعب إلي مكانه ومكانته، وإلي تاريخه وهويته، وإلي اكتشاف قدرته وهمته، والدفع بإمكانياته وإرادته بقصد حشد وإدارة ما يملكه من موارده الطبيعية والإنسانية، التاريخية والاستراتيجية، الاقتصادية والثقافية - بما يكفل بلوغ الحد الأدني من مطالبه، ويسعي بيقظة وكفاءة لتحقيق الحد الأعلي لهذه المطالب».
وإذا كان ذلك التعريف صحيحاً - فإن الجماهير العادية لا تعرف عن الحياة السياسية مما تسمعه من خطب زعمائها، وتقرؤه عن خططهم المعلنة، أو تراه متزاحماً علي صفحات الجرائد أو شاشات التليفزيون، وإنما هي تعرف حين تقيس تأثير ذلك كله علي حياتها وآمالها - وعلي معاشها كل يوم.
ويقال أحياناً - ظلما وتجنياً - إن الشعب المصري لا يعرف السياسة إلا عن طريق بطنه، والقول العدل أن ذلك حال كل الشعوب، إذ يكون مدخلها إلي السياسة ما تري من أحوال حياتها ومعاشها، أي ما تواجهه وتتعرض له في جميع شؤونها صباح مساء، فذلك في معيارها وزن الحقائق، وغيره لا يسنده واقع ولا يقوم عليه دليل.
بل إن الثورات - وهي ذروة التحولات السياسية الكبري في المجتمعات - وقعت علي طول التاريخ لأسباب تتصل بالحياة اليومية - الاقتصادية الاجتماعية بالدرجة الأولي - لعامة الناس.
ولم تقم ثورة في التاريخ - في أي مكان في الدنيا - إلا وكان محركها المباشر اقتصاديا اجتماعيا - وأعود إلي ما كنت أقوله:
وهو أنه في أواخر عصر الرئيس السادات ظهرت فجوة واسعة بين القول المُعلن - والحقيقة المُعاشة!
وفي الواقع فإن تلك السنوات كانت سنوات جَيشان اجتماعي وسياسي. وكان هناك بعض من رصدوا وشخصوا، أذكر منهم ذلك الرجل العجوز الحكيم الذي فقدته مصر منذ قرابة العامين، وأعني به الدكتور «محمود فوزي».
إنكم لم تعرفوا الدكتور «محمود فوزي» - يا سيادة الرئيس - وكان في مُناي أن تعرفوه وأن تسمعوه، لم يعرفه ولم يسمعه كثيرون، فقد كان الرجل بطبعه قليل الكلام، عزوفاً عما لا لزوم له، وكان عفّاً، وكان مثقفاً، ولذا أعطاه الناس نوعاً فريداً من الاحترام يقوم علي مجرد إحساسهم بأنه رجل له معني، وبالتالي رجل له قيمة تستحق الحرص.
كنت أراه كثيراً، وكنت زائراً منتظماً لفراش مرضه في أيامه الأخيرة، وكانت له تعبيرات لا ينافسه فيها أحد. وسألته ذات يوم كيف يري الأحوال؟ وكان رده:
«لقد أضفنا إلي فنون المسرح ظاهرة جديدة هي المسرحة بلا مسرحية. فهناك آلات تعزف، وطبول تدق، وأضواء وألوان، وستائر من القطيفة الحمراء المزركشة بالذهب ترتفع، وخلفيات من الديكور تظهر، وناس يروحون ويجيئون علي الخشبة، وأصوات متنوعة الطبقات واللهجات - لكن المشكلة أنه ليس هناك موضوع، بل ليس هناك نص.
ذلك ما أعنيه: المسرحة دون مسرحية!».
وسكت الدكتور «فوزي» يومها قليلاً، ثم استطرد:
«أخشي ما أخشاه أن تجيء لحظة يكتشف فيها جمهور المتفرجين، حقيقة أنه ليس أمامهم إلا مؤثرات بالصوت والضوء أمام عيونهم وفي آذانهم، لكنها مؤثرات بلا موضوع، وبلا نص».
وكان ذلك بالرمز تعبيراً عن واقع أنها مسرحة بلا مسرحية.
وجاءت لحظة أفاق فيها جمهور المتفرجين من المؤثرات المرئية والمسموعة، واكتشفوا أن الموضوع هش، والنص ركيك، وجاءت لحظة الحقيقة.
..........
إنني - يا سيادة الرئيس - ضد الاغتيال مهما كانت دوافعه، خصوصاً بالنسبة لرجل حمل بشجاعة مسؤولية قرار أكتوبر، وبصرف النظر عن كل ما جري بعد ذلك وصار - فإن علينا التنبه إلي أنه لا شيء يجري في فراغ، بما في ذلك الاغتيال لسوء الحظ. والواقع أن الاغتيال لا يحدث إلا في مناخ يهيئ له ويجعل تنفيذه وارداً، ونتائجه متوقعة، وربما أن ذلك كان من سر موقف اللامبالاة الذي ظهر يوم تشييع جنازة الرئيس «السادات»، وقد لفت هذا الموقف نظر العالم، فراح يتأمله مدققاً ومحققاً، يحاول أن يتقصي الأسباب ويتعرف علي دواعيها.
وقد نلاحظ - يا سيادة الرئيس - أن الذين قاموا بالاغتيال - خالد الإسلامبولي ورفاقه - لم يكونوا من نوع أولئك الذين اغتالوا الأخوين «جون» و«روبرت كيندي»، أو أولئك الذين حاولوا اغتيال الرئيس الأمريكي الحالي «رونالد ريجان»، والبابا «يوحنا بولس الثاني» الجالس الآن علي عرش القديس «بطرس» في الفاتيكان، لأن أولئك كانوا من الشاردين علي هوامش مجتمعاتهم.
وعلي خلاف ذلك، فإن الذين اغتالوا الرئيس «السادات» جاءوا من داخل المجري العام للأفكار والعقائد في مصر، ومن السابحين في أحد الروافد الظاهرة في التيار الإسلامي العارم والعنيف أحياناً، وذلك رافد فكر وعمل، جرت ينابيعه الأولي من صدر الإسلام، ثم تعمق مجراه باجتهادات اثنين من الفقهاء الكبار: «ابن حنبل» و«ابن تيمية»، ثم فاض علي عصرنا الحديث بتعاليم مجموعة من الرجال يبدأون بـ«جمال الدين الأفغاني»، وينتهون بـ«أبي الأعلي المودودي». قد يكون عصرنا مختلفاً، وقد تكون اجتهاداتنا محكومة بحقائقه، وقد تكون لنا ملاحظات وتحفظات علي «الأفغاني» و«المودودي» وغيرهما - لكننا في هذا كله لا نستطيع أن نسقط من حسابنا أننا أمام ظاهرة يحسب حسابها من ظواهر التيار الإسلامي العارم.
وهذه ملاحظة لها أهميتها.
* * *
وفي الواقع فإن تلك الأيام الأخيرة من عصر الرئيس «السادات»، حلت علي مصر وهي في حالة أشبه ما تكون بحالة عصيان مدني.
مخطئ - يا سيادة الرئيس - من يقول إن ما حدث في سبتمبر وأكتوبر من العام الماضي كان ثورة أو ثورة مضادة، أو شيئا شبيها بهما - بل كان ما حدث حالة تمرد عام، أو شيئا أشبه بالعصيان العام.
وكان المناخ كله تلك الأيام أحوال رفض تولد عنه غضب شديد ملأ نفوس كل الأطراف.
كان رئيس الدولة غاضبا، وكان الشارع غاضباً، وكان المسجد غاضباً، وكانت الكنيسة غاضبة، وكانت السياسة غاضبة، وكان الفكر غاضباً!
وتراجعت لغة الحوار واستحكمت لغة العنف، بادئة بحملة اعتقالات واسعة، حلا للبعض وصفها بالثورة، وبرزت المخالب وطالت الأنياب - باسم الديمقراطية وسيادة القانون - وامتلأت المعتقلات علي آخرها، والغريب أن السجون أطبقت بوابات الحديد علي كل من اعتبرتهم مصر - والعالم معها - رموزاً لكل القوي والمجموعات والتيارات الوطنية، كأن السلطة دخلت في صدام إلي النهاية مع كل الناس، ناسية أنه لا طاعة لسلطة إلا بمقدار القبول الاختياري من الأغلبية بها، وإلا بمقدار نزولها هي عند مقتضي إرادتهم.
كل فعل له رد فعل، مساو له في القوة، مضاد له في الاتجاه، هكذا تقول الهندسة، وكذلك أيضاً تقول السياسة. وهكذا فإن العنف أدي إلي العنف المضاد، وهذه تحقيقات حادث المنصة أمامنا تشهد بأن نية وخطة الاغتيال لم تتحرك ولم يرسم لها ويرتب لتنفيذها إلا بعد «اعتقالات سبتمبر 1981».
كنت أقول لمن ناقشت - وهم كثيرون - «لا تقعوا في نفس الخطأ، ما كان من اعتقالات، لم يكن «ثورة 5 سبتمبر».
وما يسمي بحادث المنصة وما توافق معه في صعيد مصر، لم يكن ثورة 6 أكتوبر.
وإنما كانت كلها مظاهر حالة عصيان، وحالة رفض، وحالة تمرد.
كان رأيي - يا سيادة الرئيس - أن هذا التوصيف مهم لأنه وحده يحدد حجم ما هو مطلوب عندما يتوقف العنف، وعندما تهدأ النفوس، وعندما تنزاح وتنجلي عاصفة الغضب التي ظلت تهب علي مصر قرابة ثلاثة شهور من خريف سنة 1981.
إذا كان ما حدث ثورة، فالثورة لها أحكامها من سقوط وظهور.
وإذا كان ما حدث تمرداً، فإن المطلوب يكون بمراجعة الطرق التي قادت إلي أبواب مسدودة.
بمعني أن التحليل السليم لأي حدث من الأحداث لا يتوفر بمجرد فهم ما كان، وإنما - قبله - بمحاولة فهم ما يمكن أن يكون.
هذه هي الصورة الأولي - يا سيادة الرئيس.
* * *
* والصورة الثانية؟
ـ الصورة الثانية - يا سيادة الرئيس - هي الأسابيع الأولي في عهدكم.
ماذا حدث فيها؟ وكيف حدث؟ ولماذا؟
أليس غريبا - يا سيادة الرئيس - أن مصر أولتكم ثقتها قبل أن تسمع منكم حرفا؟ - مع أن مصر عادة لا تمنح ثقتها بسهولة.
* إن مصر - وقد عشت التجربة - لم تمنح ثقتها لجمال عبدالناصر إلا بعد حرب السويس العظيمة، أي بعد أربع سنوات من العمل الشاق والمضني.
* كذلك - وقد كنت شاهدا - فإن مصر لم تقبل «أنور السادات» قبولا حقيقيا إلا في تلك الشهور من أواخر سنة 1977 وأوائل سنة 1978، وهي الفترة التي استطاع أن يقنعها فيها بحلمه الأسطوري: السلام مدخلا إلي الرخاء.
«ومن المفارقات أنه خلال حرب أكتوبر نفسها وبعدها - أن مصر لم تعط قبولها كاملا للرئيس «السادات»، لأن الجماهير بعد بدء المعارك ظلت تنتظر بقلق، وحين اطمأنت وصدقت أن معجزة العبور تحققت، فإن هذه الجماهير فوجئت بالثغرة، وما ترافق معها من أجواء تردد وتخبط استمرت أياما، ثم لم يكد الدخان ينجلي حتي وجدت الجماهير نفسها أمام اتفاق فك ارتباط منفرد علي الجبهة المصرية، وبدا أن التحالف العربي والدولي الكبير الذي خاض الحرب تنحل أواصره وتتبعثر قواه، وسري شعور بالتحفظ وقتها».
ولم تكن الصورة كذلك سنة 1977 «لحظة مبادرة القدس».
كان الحلم الأسطوري بالسلام والرخاء - أشبه ما يكون بشهقة العجز عن التصديق! «فيها عناصر الإثارة والدهشة والترقب والانبهار».
وعندما قام الرئيس «السادات» بمبادرته المشهورة في نوفمبر 1977، وعارضته فيها - كتبت أكبر المجلات في مصر وهي «أخبار اليوم» علي عرض صفحتها الأولي تعليقا عنوانه «واحد ضد مصر»، ورددت علي ذلك بمقال نشرته خارج مصر وقلت فيه «واحد من مصر وليس واحدا ضد مصر» - لكني أشهد أنني كنت ضمن قلة قليلة في ذلك الوقت، لأن التيار الكاسح لحظتها اندفع مع الحلم الأسطوري في السلام والرخاء.
وذلك سر تلك الشهقة المأخوذة بالمفاجآت - وقد استولت عليها تفاصيله، وجعلتها في انتظار نتائج كبيرة دون تحديد أو تخصيص!
..............
* إن مصر لم تمنح ثقتها بسهولة، ولا قبولها - إلا في حالتكم أنتم علي وجه التحديد.
إن الشعب المصري لم يمنحكم ثقته وقبوله نزولا علي أحكام المقادير، فقد كان في استطاعة الشعب المصري أن يواصل حالة اللامبالاة التي واجه بها لحظة المأساة علي المنصة، ولم تكن هناك قوة ترغمه علي غيرها لو لم يكن قد شعر في أعماقه بشيء آخر دفعة - علي عكس طبيعته - إلي الثقة والقبول فورا ودون انتظار.
يطول الحديث إلي ما لا نهاية لو أردنا أن نغوص في أعماق هذا الشعور الآخر الذي دفع إلي الثقة والقبول في تلك اللحظة، فقد كان ذلك حكما بالوجدان أكثر منه حكما بالعقل، إن العقل أحيانا مقيد مهما انطلق، والوجدان كثيرا ما يكون مصيبا حتي وإن تسرع، ووجدان فرد أو شعب يتصل بالضمير أكثر مما يتصل بالحساب.
إن علم الحساب يقول إن واحد زائد واحد يساوي اثنين، وهذا كل شيء، ولو حاول أحد تطبيق ذلك، فقد كان يمكنه بعلم الحساب أن يحدد المسألة علي النحو التالي:
رجل اختاره الرئيس «السادات» نائبا له، وبقي معه ست سنوات، ثم تقدم لمقعد الرئاسة في أعقاب مصادفة مأساوية - فما هو مجال الحركة المفتوحة له؟ وإلي أي مدي يستطيع؟
إن ضمير الشعب، ووجدانه اختلفا مع علم الحساب، في لحظة عظيمة الخطر وغير مأمونة العواقب ولا تحتمل التردد. ومرة أخري لفتت الظاهرة نظر العالم كله، فراح يتأملها مدققا ومحققا يحاول أن يتقصي الأسباب ويتعرف علي دواعيها.
ولقد أحسست - يا سيادة الرئيس - حتي ونحن وراء قضبان السجن، غائبين أو مغيبين من مجالات الحياة العامة في مصر - أن جماهير الشعب منحتكم ثقتها وقبولها بغير تردد.
وحين أتيح لي - ولغيري - أن نخرج من وراء القضبان كانت هذه الحقيقة أمام عيوننا واقعا لا يقبل الشك والجدل.
ولقد كنت واحدا من الذين قالوا في تلك اللحظة:
ـ ظلموه إذ حملوه ما لا يسمح بتحقيقه واقع الحال!
صاغوا أحلامهم وعلقوها سلاسل من ذهب في أعناقهم ومشوا بها فرحين مختالين، بعض الناس لهم الحق أن يشتكوا من فرط سوء نية الآخرين حيالهم، وقلائل لهم الحق أن يشتكوا من فرط حسن النية المسبقة فيهم، تفرش الطريق أمامهم بأوراق الورد والياسمين، ثم تنتظر منهم أن يتحركوا ويفعلوا!!
ماذا كانوا يريدون منكم - يا سيادة الرئيس - وما هو بالضبط ذلك الذي كان مطلبهم؟
ذلك سؤال حيوي، وربما كانت خير وسيلة للإجابة عنه هي محاولة جس نبض الرأي العام في استجابته - بالتأييد أو بالتساؤل - إزاء خطواتكم واحدة بعد الأخري.
* ونستعرض مواقف الاستجابة بالتأييد أولا:
أقول بغير تردد إن استجابة الرأي العام كانت تأييداً كاملا إزاء مجموعة من الخطا بدت في الشهور الأولي وكأنها - هي وليس غيرها - مؤشر اتجاه الحركة.
* الإطار الذي قدمتم فيه أنفسكم للناس في أول خطاب حين رأي الناس أمامهم واحدا منهم لا يمثل شخصية «رمسيس الثاني» ممسكا بمفتاح الحياة في يده، ولا يقلد «لويس الرابع عشر» صاحب القول المشهور: أنا الدولة!
رجلا يتصرف بتواضع، ولا يهرول وراءه رجل آخر بدرجة وزير ليحمل عنه أوراقه، أو ثان يمسك له بمقعده يزيحه تحته عندما يجلس، ثم رجل يتكلم من نص رصين مكتوب بغير انفعال، ولا افتعال!
..............
* القرار - والأسلوب الذي جري به تنفيذ القرار - في عملية الإفراج عن المعتقلين، فقد كان ذلك تصرفا لفت انتباه مصر، ولفت انتباه الأمة العربية، ولفت انتباه العالم، حين بدا أن هناك رجلا لم تأخذه عزة القوة أو حماقة القوة، بحيث أدرك في غير ادعاء أو استعلاء أن الرجوع عن الخطأ هو نفسه طريق الصواب.
كان يكفيه أن يقول ثلاث جمل لا أكثر:
«صفحة جديدة في تاريخ مصر - وحوار مفتوح مع كل القوي الوطنية - ووقت لأفكر».
وبها فإنه قال كل شيء!
* الأعصاب الهادئة التي جرت بها إدارة العلاقات مع إسرائيل في تلك الفترة الحرجة، ما بين اغتيال الرئيس «السادات» في 6 أكتوبر 1981، وإتمام المرحلة الأخيرة من الانسحاب من سيناء في 18 أبريل 1982. ومن وجهة نظري ولأسباب عديدة - ليس الآن مكانها - لم يكن يراودني شك في أن إسرائيل سوف تخرج من هذه الأرض في الموعد المقرر.
كانت إسرائيل في تلك الفترة تشن علي القيادة المصرية الجديدة حرب أعصاب، ومرة أخري كان الشعب المصري واعياً في تصرفه معكم، وجري بينكم وبينه حديث بالرموز والإشارات ترجمته في النهاية: «لا تقلق علي هذه الناحية من الخطوط، تفرغ بالكامل لمواجهة ما يحاولونه معك، وتصرف كما تري مناسباً، نحن نعرف ونفهم، ولن يحدث هنا شيء أو يرتفع صوت يسبب لك من وراء ظهرك ما يمكن أن يؤثر علي موقفك أو يحد من حريتك».
..........
* محاولة الإطلال علي الصورة العلمية للواقع الاقتصادي الاجتماعي في مصر بعد سنوات من الفوضي الشاملة والضباب الكثيف، وكان ذلك عن طريق مؤتمر ضم صفوة من المهتمين والمتخصصين في شؤون الاقتصاد في مصر من مختلف مدارس العلم والفكر.
ولقد كانت لي ملاحظة علي هذا المؤتمر أبديتها في حينه ومباشرة، فقد ذكرت مباشرة أمامكم أن أي دراسة لا تحقق المطلوب منها إلا علي ضوء اختيار سياسي، يعبر بدوره عن اختيار اجتماعي. فالعلوم الاجتماعية - وأولها الاقتصاد - ليست محايدة، والحقيقة الاجتماعية كما يقولون لا تعيش في فراغ، بل إن الفراغ ذاته يتخذ شكل الوعاء الذي يحتويه، سواء كان هذا الوعاء بحجم فنجان قهوة أو اتسع بحدود وطن بأكمله،
وبالتالي فقد كان بعض التحديد مطلوباً عن طريق الاختيار، ومع ذلك فلقد وصل المؤتمر إلي نتيجة لا بأس بها، إذ اتضحت بعده - ولأول مرة منذ سنوات طويلة - أرقام كثيرة مخفية عن أصحاب الحق في معرفتها، بمعني أنها كانت سراً علي جماهير الشعب المصري التي لم يكن لديها سوي ما يقال لها من أن الرخاء قادم: سنة 1980!
(وذلك يعطينا - يا سيادة الرئيس - درساً بليغاً في التعامل مع الشعوب. لأن هناك ممارسة في العمل السياسي المصري تتصور أن الخداع سلاح فعّال مع شعب يتصوّرونه ساذجاً.
وقد انتظر الشعب المصري سنة الوعد بالرخاء: سنة 1980، وانتظر صابراً لا يتململ، ولم يجئ الرخاء في موعده المضروب، وفي السنة التالية - 1981 - كانت مصر أمام خريف الغضب!
هكذا التاريخ، يتحدث عنه بعض الناس وكأنه غيب مجهول، والحقيقة أنه فعل له - في نهاية المطاف - قوة قانون).
..........
* السماح لأحزاب المعارضة التي تعرضت للضرب العنيف أو التبريد العميق - فيما سُمي بثورة 5 سبتمبر - بالعودة ثانية إلي المسرح السياسي، ومعها أدواتها في التعبير عن نفسها بحقها المشروع والقانوني في صحف ومنشورات، ثم لقاءاتكم مع شخصياتهم لتبادل الرأي فيما ترونه ضرورياً ولازماً.
لقد كان الحكم - ولا يزال - يا سيادة الرئيس - فردياً بطبيعة الظروف في مصر، رجل واحد علي القمة يقرأ ويسمع ويشاور ويحاور، وهو في آخر النهار يتخذ قراره بنفسه.
وبالطبع فإن هناك الطموح إلي مرحلة من التطور تسمح بوجود مؤسسات لا تستمد سلطتها في النهاية من رجل واحد علي القمة، بل تملك بنفسها إمكانيات وسلطات حركتها الذاتية، لكنه حتي تجيء هذه المرحلة من التطور، فليس هناك ما يدعو إلي تسمية الأشياء بغير أسمائها، وإلا كنا نخدع أنفسنا ولا نخدع أحداً غيرنا.
نعم، الحكم فردي، وهذا خطر، وقد نقول إنه ضرورة مرحلة ينبغي اجتيازها، وبالفعل فقد جاء الوقت الملائم لتجاوزها.
لكنه إذا كان الحكم الفردي خطراً، فإن الحكم الشخصي كارثة.
وقد عرفنا «الحكم الشخصي» بعد «الحكم الفردي».
والقرار في الحكم الفردي يصدر عن رؤية عامة قابلة بالطبع للصواب والخطأ - وأما القرار في الحكم الشخصي فإن الحدود معه تضيق، إذ يختفي إلهام الرؤية العامة ليحل محلها همس الوحي المباشر!
..........
* وزاد فوق هذا كله، وأضيف إليه تأييد الناس لكم في دعوة إلي الطهارة، تعهدت باستئصال الفساد، وعدم التستر عليه بعد أن سري واستشري في أجواء تغري به، وتساعد عليه، وتبسط يد الحماية فوقه.
* * *
سيادة الرئيس
لقد فرغت الآن من عرض استجابات الرأي العام بالتأييد لبعض خطواتكم، وأنتقل الآن - بإذنكم وسماحكم - إلي الجانب الآخر، جانب الاستجابة بالتساؤل أو بالتردد، وأستعرض أمامكم نماذج مما يجري ويدور علي هذا الجانب الآخر.
..........
* لقد بدأت التساؤلات - يا سيادة الرئيس - حين فوجيء الناس بقبولكم رئاسة الحزب الوطني.
لقد كان هناك في تاريخ مصر حزب يحمل هذا الاسم أسسه «مصطفي كامل»، ثم خلفه علي رئاسته «محمد فريد»، وكانت لهذا الحزب سياسات معينة، وكانت له مناهج معروفة، وبعد ذلك التاريخ فإن أي محاولة لوصل ما انقطع - خصوصاً إذا لم تكن هناك صلة لا بالاستمرار ولا بالسياسات ولا بالمناهج - عملية تلفيق للتاريخ. مع اليقين بأن حقب التاريخ ليست قطعاً من القماش تشبكها ببعضها إبرة وخيط!
..........
* اتصل بذلك أن الذين يضمهم الحزب الوطني الآن هم في مجموعهم نفس الناس الذين ضمهم من قبل الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي ثم حزب مصر، ومعني ذلك أن هذا الحزب الوطني في لونه الأخير - اعترفنا بذلك أو لم نعترف - تجمُّع لأصحاب المصالح القائمة، أو فلنقل ببساطة إنه حزب السلطة، وحزب أي سلطة، وتلك ظاهرة عادية في معظم بلدان العالم الثالث لم تنفرد مصر بها، وليس هناك ما يدعونا إلي لوم أحد عليها، بمن فيهم أصحاب الشأن الذين جمعهم الحزب، فتلك أحكام الظروف.
لكننا لم نكن في ظرف عادي - يا سيادة الرئيس - وإنما كنا في ظرف يقتضي حضور مصر كلها، ولقد كان ذلك هو المغزي الحقيقي لحقيقة التفاف جماهير الشعب حولكم، من قبل أن تصدر عنكم كلمة واحدة. لقد اختاروكم - يا سيادة الرئيس - لمعني أو معان ليس بينها علي وجه القطع، استمرار السياسات والممارسات التي سادت خريف الغضب.
وليس دقيقاً - يا سيادة الرئيس - أن يقال إن الحزب الوطني هو الذي قام بعملية انتقال السلطة إليكم يوم 6 أكتوبر. لقد تم انتقال السلطة مع نفس اللحظة التي تبين فيها بعد دقائق من حادث المنصة أن جهاز الدولة قائم بعمله، وأن تروسه جاهزة لمواصلة الدوران، وليس خافياً أن عدداً من الجماعات المنتمية إلي الحزب الوطني كانت في حالة فرار طوال أيام الانتقال، ولعدة شهور بعد الحادث كانت هذه الجماعات لا تعرف كيف تلملم أطرافها وأعصابها، ولا إلي أين تتجه، أو إلي من تتجه.
هل أقول ما هو أكثر - يا سيادة الرئيس - هل أقول إن كل الأحزاب القائمة - سواء في ذلك الحزب الوطني أو أحزاب المعارضة - ظاهرة ضبابية لأنه لا يعرف أحد بالضبط ما تمثله أو حجم ما تمثله. لأنها جميعاً نشأت بقرار شخصي: يمين ووسط ويسار. اختراع وصفناه بالمنابر أولاً، ثم استعرنا له وصف الأحزاب فيما بعد.
إن الأحزاب الأخري - غير الحزب الوطني - حزب السلطة - اضطرت تحت ضغط الظروف أن تحدد مواقفها أكثر، لأن ذلك كان سبيلها الوحيد للوصول إلي الناس. أما الحزب الوطني فلم يكن يواجه مثل هذا الاضطرار، لأن مركبة السلطة كانت وسيلته السريعة في التمكين لنفسه مع واقع حال يؤكد أن هذا الحزب وأي حزب غيره في مصر كَمَّ مجهول في حجمه وقوته، بل لقد كان هناك من يزعمون أن المجهول من كَمِّ هذه الأحزاب حجماً وقوة لا يقتصر علي النسبة والتناسب بينها، وإنما يمتد إلي ما هو أكثر، أي إلي حجم ما تمثله مجتمعة علي الساحة المصرية كلها، وقد كان هناك من رأوا - ومازالوا - أن هناك قوي رئيسية غائبة تماماً، فهي موجودة في المجتمع بالفعل، لكن التنظيمات القائمة لا تحتويها ولا تمثلها.
هكذا أثارت رئاستكم للحزب الوطني تساؤلات، وليس مستساغاً أن يقاس الوضع بأمثلة مما يجري هناك، مثل أن يحكم «فرانسوا ميتران» من قصر الإليزيه من موقع رئاسته للحزب الاشتراكي الفرنسي، هناك سمحت مراحل التطور بديمقراطية حقيقية، وهناك حدث الانتقال من «جيسكار ديستان» إلي «فرانسوا ميتران» عن طريق صناديق الانتخاب، وهناك كثير غير ذلك يطول شرحه، ولا مجال للمقارنة، بل ولا داعي للمقارنة، لأن اختلاف مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي لا تسمح به، وإلا كنا مجرد مقلدين، فضلاً عن أنه إذا أردنا أن نكون كذلك، فلا يجوز أن ننتقي ما يصادف هوانا ونعرض عن غيره، لأن التقليد بالانتقاء إجحاف، وإذا لم نكن قادرين علي التقليد في كل شيء، إذن فنلزم ظروفنا صراحة، قائلين إنه لا يكلف الله نفساً إلي وسعها.
وأعرف أنه قيل لكم - يا سيادة الرئيس - والعهدة علي الرواة - إنه إذا طال ترددكم في قبول رئاسة الحزب، فإن هذا الحزب مُعرّض للانهيار، وكان ذلك في حد ذاته سبباً كافياً كي تُعرضوا عن قبول رئاسته مهما كانت الضغوط.
إن المفروض في الحزب السياسي أنه يناضل لكي يصنع السلطة، وليس المفروض من حزب أن يتوسل إلي السلطة لكي تصنعه.
..........
* عادت التساؤلات مرة أخري عند تشكيل الوزارة الجديدة.
كان كل بند من التركة التي ورثتموها أشبه ما يكون بقميص من الحديد يعطل الحركة، بل يكاد يعوقها تماماً.
الحالة الاقتصادية والاجتماعية بأرقامها المزعجة، ومدلولات هذه الأرقام في حياة غالبية الطبقات - قميص من حديد.
حالة العلاقات مع إسرائيل - قميص من حديد.
حالة العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية - قميص من حديد.
حالة العلاقات مع الاتحاد السوفيتي - قميص من حديد.
حالة العلاقات العربية - قميص من حديد.
وبهذه القمصان الحديدية كلها، فقد كان قبول التحدي يتطلب أقوي وزارة في تاريخ مصر، خصوصاً إذا كنا منذ البداية نواجه حالة تمرد عام، عصيان عام في مصر، وقعت في إطارها أحداث حركت الغضب من الاعتقال إلي الاغتيال!
ولست أقول إن الوزارة الحالية هي أضعف وزارة في تاريخ مصر، ولكني أقول ببساطة إنها ليست أقوي وزارة في تاريخ مصر.
وأليس ملفتاً للنظر أنه مع تسليمنا جميعاً بأن المشكلة الاقتصادية هي رأس القائمة في أولوياتنا؟، فإن المجموعة الاقتصادية الوزارية تغيرت ثلاث مرات في أقل من سنة واحدة!
ولقد ضاعف من خطورة هذا الموقف - يا سيادة الرئيس - إحساس الناس بأن مؤسسة الرئاسة، وهي أخطر المؤسسات في نظام رئاسي، تقع أعباؤها عليكم شخصياً، إلا واحداً أو اثنين علي أكثر تقدير من المساعدين، وربما كان - أو كانا - من أخلص الناس لكم، لكني واحد من الذين يرون - بكل الاحترام والتوقير - أن ذلك ليس كافياً.
إن مؤسسة الرئاسة في الولايات المتحدة - حيث النظام رئاسي مباشر - تضم عشرات من الأجهزة يعمل فيها مئات من أكبر العقول في الولايات المتحدة.
ونفس الشيء في مؤسسة الرئاسة في فرنسا - وحيث النظام رئاسي برلماني.
هناك بحكم النظام تقوم مؤسسة الرئاسة بتحديد السياسات التي يمثلها الرئيس بحكم تعبيره عن استراتيجيات العمل الوطني التي أوصلته أصوات الناخبين علي أساسها إلي مقعده في البيت الأبيض أو في قصر الإليزيه.
ثم إن مؤسسة الرئاسة - بعد تحديد السياسات - تقوم بمتابعتها ومراقبة تنفيذها، وتلك مسؤوليات جسيمة لا يقوم بها إلا جهاز قادر علي متابعة عمل جهاز الحكم في كل المجالات: الاقتصادية والاجتماعية، السياسية الدولية والأمن القومي، العلاقات العامة واتجاهات الرأي العام، دستورية القرارات وقانونيتها. مؤسسة الرئاسة - باختصار - هي محرك الاتجاه العام لسياسة الدولة.
بل إن نفس الشيء إلي حد ما يحدث - يا سيادة الرئيس - في النظم الملكية الديمقراطية، فمكتب رئيسة الوزراء في بريطانيا جهاز كامل يتحرك حولها.
وأعرف - يا سيادة الرئيس - طبيعة الحساسيات التي تحيط - أو يمكن أن تحيط - بجهاز كامل وقوي لمؤسسة الرئاسة في مصر. وأعرف أن لديكم شخصياً تخوُّفاً من تكرار ما سمعوه عن تجارب سابقة. لكن الضرورات تفرض نفسها، ثم إن دروس الماضي أمام الجميع، ومن حق الكل - بل ومن واجبهم - أن يستخلصوا منها ما يحقق الهدف الأساسي المطلوب ويتجنب محاذير السوابق في نفس الوقت.
ولقد تقول - يا سيادة الرئيس - وقد سمعت ذلك مباشرة منكم - إن الوزارة هي نفسها جهاز الرئاسة، ولكن هذه فرط حساسية لا تسمح بها الظروف، لأن المسؤولية عليكم أنتم يا سيادة الرئيس، ولقد حمّلكم الشعب إياها، ليس فقط بعدد الأصوات، ولكن بهذا الإطار المثير للعجب والإعجاب الذي أحاطكم به من أول يوم.
ولقد حدث فعلاً - يا سيادة الرئيس - أن تقدمت وزارة إلي مجلس الشعب بميزانية فائض وأقرها المجلس.
ثم تقدمت وزارة أخري - تكاد تكون هي نفس الوزارة - إلي مجلس الشعب بميزانية عجز وأقرها المجلس.
وإذن فنحن - بصرف النظر عن كل الحساسيات - في حاجة إلي جهاز كامل قادر علي التوجيه والمتابعة والسؤال، وليس المساءلة، وإن كانت المساءلة في النظام الرئاسي مقبولة.
هناك سلطة واحدة في الوضع الراهن وفي هذه المرحلة من التطور - وكما ذكرت من قبل يا سيادة الرئيس - فإننا نطمح إلي تغيير هذا الوضع بحيث تتعدد السلطات، ولكن الواقع يفرض نفسه، وليست هناك جدوي من التصرف علي أي أساس آخر، إلي أن يتحقق التغيير، وتهيأ له ظروف التطور الاقتصادي والاجتماعي في الوطن (وهذه عملية تنمو بتجربة كل يوم).
..........
* لقد زادت التساؤلات مرة أخري لتدور حول عملية التصدي للفساد والإفساد، فقد بدت هذه العملية في بعض الأوقات، وكأن إجراءاتها تقلُصات، يظهر الإحساس بها لحظة، ثم يختفي الإحساس بها لحظة أخري، ويصحو فعلها يوماً، ثم يغفو في اليوم التالي.
لعله كان تقدماً في حذر، أو لعله كان اقتراباً علي استحياء، لكن هذا الإقدام والإحجام - إلي جانب ما فيه من زوايا أخري - خطر محقق، لأن جماعات الفساد والإفساد - في مصر وفي غيرها - أشبه ما تكون بعصابات المافيا المشهورة في الولايات المتحدة وإيطاليا.
تجمعات للنهب المنظم، بينها علاقات معقدة من المشاركة والمواجهة، لأن بعض الغنائم قابل للقسمة، وبعض المغانم مطلوب للاحتكار، وكذلك يحل الوئام، ثم فجأة يفلت الزمام، وتجري تصفية الحسابات القديمة والجديدة بالنار والدم.
ومع ذلك فعائلات المافيا جميعاً - رغم ما بينها - تقف صفاً واحداً ضد القانون. وأفرادها يعرفون قواعد اللعبة إزاء هذا القانون - فإذا رأتهم عيونه فهي معركة إلي النهاية، وإذا قصرت يده لسبب فإن أيديهم هم لن تقصر عن ممثلي هذا القانون، وإذا وقع الالتفات حولهم - ولو بمصادفة - فإنهم لا يقدرون علي الاطمئنان، وإنما يقدرون فقط عندما يتم قلع العيون التي رأتهم، وقطع الأيدي التي يمكن أن تمتد إليهم، وانتقال الالتفات منهم إلي بعيد عنهم، ولا تحتمل الأمور مساومات أو أنصاف حلول.
وربما تلاحظون - يا سيادة الرئيس - أنه حين جري الاقتراب من إحدي جماعات المافيا المصرية، فإن بقية الجماعات الأخري لم تسكت رغم التيارات الدموية القديمة بينهم وبين بعضهم، وكان يقينهم - وهو منطقي - أن بداية أي طريق مؤدية حتماً إلي آخره، ولم يسكتوا، ولن يسكتوا.
* ولقد بدأوا بإظهار الخوف علي الاستقرار.
* وانتقلوا إلي إبداء القلق علي الرخاء، والحرص علي المستثمرين.
* ووصلوا إلي إبداء الحرص علي تماسك السوق.
* وأخيراً كانت صيحتهم «ثم لا تنسوا واجب الوفاء».
كل ذلك دون أن يحددوا: أي استقرار؟ - ورخاء من؟ - وما حكاية هؤلاء المستثمرين؟ - ثم ماذا هذه السوق التي ينبغي المحافظة علي تماسكها؟ - وكانت الطامة الكبري دعوي الوفاء، وأليس فاضحاً ألا تجد المافيا في النهاية غير عمائم الفضيلة ومكارم الأخلاق؟!
كانت تلك خطوتهم الأولي لرد محاولة الاقتراب منهم بعيون القانون ويديه. ثم توالت الخطي.
..........
* ولقد ألحت التساؤلات علي الناس عندما تكررت نغمة أنه «ليس هناك حل قريب لمشاكل الناس»، وبأنه «لا حل مع استمرار الزيادة في عدد السكان»، وأنه «ليس لدي أحد عصا سحرية»، وبأنه «لو جاءت حكومة الملائكة لما استطاعت أن تفعل شيئاً يرضي الناس».
ومع ما في مثل هذه التعبيرات من ادعاء «الواقعية» - إلا أنه يبقي بأمانة أن المسؤولية الأولي والأخيرة لأي حكم هي البحث عن طرق وبدائل وحلول لمشاكل الوطن وناسه، وكلها مشاكل ظاهرة صارخة أمام كل من تقدم بنفسه للمسؤولية عن الوطن والناس.
وأريد أن أكون واضحاً ومحدداً في هذه النقطة:
- الشعب المصري يدرك أن عهد الإجراءات الكبيرة قد مضي، لأن الظروف وأحكام الظروف تضع علي مصر الآن قيوداً لم تكن هناك في مرحلة سابقة.
- كذلك فإن الشعب المصري يدرك أن عهد الصدمات الكهربائية قد مضي أيضاً.
- والشعب المصري - فيما أظن وفيما أحس - لم يعد يريد أن يسمع أحلاماً وأوهاماً.
لقد كان لإحدي المجلات الأمريكية الكبري تصوير دقيق في وصف أحوال مصر في السنوات الأخيرة، وقد ورد تصوير هذه المجلة وهي «نيوزويك» قبل أسابيع، وللعلم فإن «نيوزويك» كانت ومازالت مجلة صديقة للرئيس «السادات»، وكان من أسباب زهوه أحياناً كثيرة أن صورته ظهرت علي غلافها ست مرات، ومع ذلك فقد اضطرت «نيوزويك» إلي أن تقول في ذكري السنة الأولي بعد مأساة المنصة: «إن الشعب المصري في عهد «أنور السادات» كان أشبه برجل تزوج ملكة جمال العالم، هي تسحبه كل يوم إلي مهرجان وكل ليلة إلي سهرة، وليس هناك من يرعي شؤون البيت!».
لم يكن ذلك هو كل تعليقها، فقد كان بعض ما فيه قاسيا، وبينه: «إن ذلك العصر كان عصر إسراف وفساد»، وكان ذلك محزنا، لأن الذين شجعوا العصر علي ما انجرف إليه، راحوا بعد أن وقعت الواقعة ينحون عليه باللائمة، ويتخذون لأنفسهم مجلس القضاء، في حين أنهم كانوا ـ بغوايتهم ـ سبب البلاء أو ضمن أسبابه!
علي أن تلك قصة أخري.
المهم أن الشعب المصري علي استعداد لسماع الحقائق الواقعية، لكنه أيضا يريد أن يري أملا يتوجه إليه، يريد ـ كما يقول التعبير المشهور ـ «أن يري ضوءاً في آخر النفق المظلم» ـ تلك مهمة أي نظام وأي حكومة، وإلا ضيعت السلطة مقتضي مسؤوليتها بل وداعي ضرورتها!
..............
* راحت التساؤلات تلح بهواجسها إزاء بعض الممارسات في السياسة العربية والدولية.
ـ لم يتحمس كثيرون ـ فيما أظن ـ لامتناع مصر عن التصويت علي مشروع قرار عرض أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 5 فبراير 1982، كان مشروع القرار يدين إسرائيل للطريقة التي تتصرف بها ضد قواعد السلوك الدولي والقانون الدولي كما تجلت في ضمها لمرتفعات الجولان، ولم يكن مقبولا أن تصوت مصر بالامتناع، في حين تصوت اليونان بالموافقة، وقد يقال إن مصر لم تكن راغبة في استفزاز إسرائيل قبل إتمام الجلاء عن سيناء، وحتي لو كان ذلك صحيحا، فلقد كان من الأفضل لمصر أن تتغيب عن حضور جلسة التصويت ولا تسجل علي نفسها موقف الامتناع مثل جامايكا والمكسيك!
ـ ولم يتحمس كثيرون ـ فيما أظن ـ للموقف الرسمي من أحداث لبنان، وحين بدأ الغزو الإسرائيلي، وأحاطت قواته ببيروت، فلقد كنت واحدا من الذين راودتهم الأحلام بأن تقف مصر موقفها الصحيح دون عصبية تعرضها لما لا تريد أن تتعرض له الآن، أو حتي في المستقبل.
وصحيح أن مصر ـ خلافا لما فعله كثيرون غيرها ـ لم تعد الفلسطينيين بشيء لا تستطيع الوفاء به، ومع ذلك فإن الصمت ليس سياسة، وكان في ظني أن مصر ـ مع ذلك ـ أمامها خيارات وبدائل تعبر بها عن نفسها أمام تاريخها وأمام أمتها العربية وأمام العالم.
«وقد تصورت ـ مثلا ـ أن يوضع حد لتدفق السياح الإسرائيليين إلي مصر، ويومها ـ يوم غزو لبنان 6 يونيو 1982 ـ كان في مصر 42 ألف سائح إسرائيلي بالضبط، وكان وجودهم في شوارع القاهرة والصعيد استفزازا، أو داعيا إلي استفزاز يترتب عليه حادث لا لزوم له، وكان في الإمكان ـ بهدوء وبغير عصبية ـ تقليص العدد بمطلب أمن هؤلاء السياح، وهو مطلب معقول.
وتصورت ـ مثلا ـ أن مصر كانت تستطيع أن توقف شحنات البترول المصري إلي إسرائيل مادامت المعارك مستمرة، وإذا كنا نعطي لإسرائيل 2 مليون طن من البترول سنوياً (أي 14 مليون برميل) - فمعني ذلك أن هناك عدة ناقلات تجيء كل أسبوع لحمل البترول المصري إلي إسرائيل، ولم يكن في مقدور أحد أن يلوم، فلم يكن معقولا ولا متصورا أن نواصل إمداد إسرائيل بالبترول بينما قواتها تتقدم وتحاصر عاصمة عربية وقيادة ثورة عربية.
وتصورت ـ مثلا «إجراء استدعاء السفير المصري في إسرائيل، لكن هذا الإجراء ـ لسوء الحظ ـ تأخر».
ـ ولم يتحمس كثيرون ـ فيما أظن ـ لمشهد وزير خارجية مصر يسلم سفير الولايات المتحدة كل يوم شكوي إلي الرئيس الأمريكي «رونالد ريجان» ولو كانت الشكاوي مجدية، لكان لغيرنا ـ الإخوة العرب ـ سبق فيها، لأنهم يملكون من وسائل الشفاعة لدي الرئيس الأمريكي ما لا نملكه نحن!
وكانت تلك كلها مجرد أمثلة، عملية استشهاد وليست عملية حصر.
* * *
مجمل القول في أسباب التأييد وأسباب التحفظ ـ يا سيادة الرئيس ـ ما يلي:
ـ بصفة عامة فإن الاتجاهات مفهومة.
ـ وبصفة عامة أيضا فإن الإيقاع بطيء.
ـ وبصفة عامة فإن السياسات غير محددة.
ومشكلة ذلك كله أن الفرص السانحة قد تفلت، لأن بطء الحركة وعدم الوضوح، مما يعرض المسيرة لقطع الطريق عليها، والإغارة علي أجنابها ومؤخرتها وحتي مهاجمة المقدمة.
إن الناس جميعاً يرون الغيلان المتربصة علي الطريق، وكلها غيلان متوحشة: «الديون» غول، و«التضخم» غول، و«الإرهاب» غول، و«إسرائيل» غول، حتي «المساعدات الأمريكية من القمح أو السلاح» كلاهما زوج من الغيلان!
وأنتم ـ ونحن شعبكم معكم ـ علي الطريق الوعر، ولابد أن يكون هناك ضوء في آخر النفق، وتلك ضرورة، وفوق الضرورة، فتلك واجبات أي نظام وحكومة.
أطلت يا سيادة الرئيس، لكن حقنا عليك كثير، وحقك علينا أكثر.
وكان بودي أن أريحكم وأستريح، لكن الحديث مازالت له بقية.