الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل :« المقال الرابع» ملاحظات عن سياسة مصر العربية!
22/1/2008
كان المقال الرابع محاولة للإطلال علي الساحة العربية، والأوضاع والإمكانيات القائمة فيها، وكان ذلك عن يقين بأنه من الصعب تصور مستقبل لمصر معزول عن بقية العالم العربي. وكانت الأوضاع في مصر وقتها - وفي العالم العربي أيضًا - تقتضي الالتفات إلي ظروف وملابسات جارية وشائكة، وقابلة لمضاعفات يحتمل أن تكون خطرة.
وفي ذلك الوقت كانت مصر خارج جامعة الدول العربية، وكان مقر الجامعة قد ترك القاهرة مهاجرًا إلي تونس، وتقرر في لحظة فوران أن يقوم بدلا منها كيان اسمه جامعة الشعوب العربية، وقيل: إن الحكومة المصرية سوف تمنحها مبني جامعة الدول العربية - ليكون مقرًا لها، ثم تبين أن الشعوب العربية أكثر غضبًا من حكوماتها، كما أن مبني الجامعة في القاهرة ليس ملكًا للحكومة المصرية، وتعثرت الخُطي، ثم تغيرت الظروف. وكانت هناك محاولات وتحركات... وكانت بعض المحاولات والتحركات خالصة، وبعضها الآخر مشوبًا، وبدا أن اللحظة المعاصرة سوف تمد تأثيرها - بالضرورة - إلي المستقبل تؤثر فيه وتشكل ملامحه!
ولسوء الحظ فإن المقدور وقتها - طبع الحاضر علي صورته!
نوفمبر 2003
نوفمبر 1982
سيادة الرئيس
يشجعني كرمكم أن أواصل حديثًا توجهت به مباشرة إليكم بعد عام كامل من التأييد ثم الصمت.
وهذه المرة أجدني مشغولاً بهموم أمتنا العربية ودور مصر ومسؤوليتها وواجبها إزاء هذه الهموم - وكلها مما يمكن أن نسميه قضايا مصير.
ولذلك فقد أسمح لنفسي وبدون مقدمات - أن أعترف بالعجز عن فهم سياسة مصر العربية، كما أنني غير قادر علي متابعة خطاها، ولعل الخطأ مني والذنب علي، ومع ذلك فلقد قلت من قبل وأكرر: إن أي إنسان لا يستطيع أن يصف غير ما يري!
هكذا فإن كلامي عن سياسة مصر العربية الآن هو وصف لما أراه لا أكثر ولا أقل، وما يمكن إجماله في ملاحظتين:
* الملاحظة الأولي: أن مصر - فيما يظهر أمامي - توَّاقة إلي كسر طوق العزلة التي تحيط بها وتباعد ما بينها وبين أمتها العربية - وهذا مطلب سليم.
* والملاحظة الثانية: أن مصر لم تحدد لنفسها بعد خطة، ولهذا فإن حركتها نحو هذا المطلب السليم - لا تبدو لي ظاهرة العزم واثقة الخُطي.
* * *
وبالنسبة للملاحظة الأولي فإن الأمر لا يحتاج إلي كثير من التفصيل، والواقع أن قراركم بتجميد نشاط تلك الدمية الخرساء التي أطلقوا عليها وصف «جامعة الشعوب العربية والإسلامية» - جاء مؤشرًا علي رغبة مصر في فتح الأبواب الموصدة، وفي نفس الوقت فقد نُشرَت لكم تصريحات عديدة تؤكد نفس التوجه.
وأما بالنسبة للملاحظة الثانية فقد يكون بعض التفصيل لازمًا بقدر ما هو ضروري للشرح.
* وعلي سبيل المثال فقد جرت بعض الاتصالات مع المملكة العربية السعودية، وكان بين هذه الاتصالات سفركم إلي الرياض لتقديم العزاء في وفاة الملك «خالد»، وتقديم التهنئة إلي الملك «فهد» - لكن وسائل الإعلام المصرية بالغت في عرض الخبر علي نحو دعا الديوان الملكي السعودي إلي إصدار بيان رسمي يقول: «إن الزيارة كانت في إطار المجاملات الودية، وإن لقاءكم بالملك «فهد» جري في مجلس عام، ولم يتطرق بشيء إلي القضايا السياسية». وأعترف بأنني لم أشعر بالراحة وأنا أقرأ سطور هذا البيان، فقد بدت لي فيه نبرة تحفظ سعودي لا تحتاج مصر إليه.
نفس الشيء تكرر في بيان من الديوان الملكي السعودي بعدما نُشر - في وسائل الإعلام المصرية أيضًا - بأن مشروع التكامل بين مصر والسودان لقي مباركة الملك «فهد» - وذلك أيضًا لا تحتاج مصر إليه.
ولقد كان يمكن أن نجامل السعودية بالعزاء وبالتهنئة بوفد مصري علي مستوي عال، يكون ظاهرًا للعيان في تشكيله أنه وفد مجاملة - لا أكثر ولا أقل - حيث الحدود واضحة، والحرمات مصونة!
يلي ذلك أن ميثاق التكامل بين مصر والسودان لم يكن في حاجة إلي طلب البركات من أحد.
* وعلي سبيل المثال أيضًا، فإن مصر قامت ببعض الاتصالات مع المملكة الهاشمية الأردنية، وأعرف أن رسائل تبودلت بين الملك «حسين» وبينكم، بل أعرف أن أحد مستشاريكم قابل الملك لحديث طويل، لكني دُهشت حين زرت فرنسا خلال شهر أغسطس الماضي، فإذا بأحد أركان الحكم في باريس يقول لي «إنكم ذهبتم إلي زيارة لسلطنة عمان للقاء جري ترتيبه بينكم وبين الملك «حسين»، لكن الملك لم يصل في الموعد المضروب، وكان الاعتذار الذي قدمه السلطان «قابوس» أن الملك تخلف لأن اليوم يصادف عيد جلوسه!».
وبدا لي أن السلطان - الذي رتَّب للمقابلة - لابد أنه يعرف موعد عيد جلوس ملك الأردن، وسواء كان السلطان يعرف أو لا يعرف فإن هناك مسؤولية لا يصح التهاون فيها مع كل رسمي مصري شارك في الإعداد أو التحضير لهذا اللقاء أو لهذا الخطأ غير المقبول، لأن مصر ورئيسها أكبر كثيرًا مما يتصوَّر كل هؤلاء الذين سمحوا لأنفسهم أن يقعوا في مثل هذا الخطأ.
* وعلي سبيل المثال أيضًا، فإن مصر قامت ببعض الاتصالات مع منظمة التحرير الفلسطينية، لكن هذه الاتصالات أخذت في وسائل الإعلام المصرية - مرة أخري - ما هو أكبر من حجمها الحقيقي، وبدا الأمر وكأن مصر تريد أن تضع نفسها في الصورة، وتريد أن تقنع آخرين بأنها فاعلة في القضية، ولم يكن ذلك دقيقًا، وكانت المبالغة في تصوير دور مصر ضارة، خصوصًا أمام العارفين والفاهمين.
* وعلي سبيل المثال أخيرًا، فإن مصر عقدت مع السودان اتفاق تكامل - لم أكن متحمسًا له، وإن لم أكن بالتأكيد ضده - لكن كل شيء لابد أن يجيء بمعيار، خصوصًا أن تلك لم تكن المرة الأولي أو الثانية أو الثالثة التي توقع مصر فيها مثل هذا الاتفاق مع السودان.
وظني أن التكامل - إذا أريد له أن ينجح - يحتاج إلي ما لا يملكه الطرفان الآن من الموارد والحقائق!
وفي بداية الأمور ونهاياتها، فإن الالتفات للسودان - مع فائق أهميته - ليس بديلاً عن دور مصر العربي - وبالغ خطورته.
* * *
وقد أكون مخطئًا - يا سيادة الرئيس - فيما رأيت ولاحظت، لكني أصدر فيما أقول عن نظرية للأمن القومي المصري، أومن بها، وأستأذن في عرض خطوطها الرئيسية أمامكم علي النحو التالي:
1- إن إستراتيچية أي وطن لا تكفيها أهواء الزعماء والحكام، وإنما تفرضها ثوابت الجغرافيا أولاً، ثم تحركها دواعي التاريخ ثانيا.
وبالتأكيد فإن الجغرافيا أهم الثوابت، لأنه علي الرقعة الجغرافية لأي بلد تنمو مصالحه، وتزدهر ثقافته، وتتحدد ارتباطاته الإنسانية والحضارية، وكذلك تبرز - في الغالب - مكامن الخطر عليه. وأما المتغيرات فمن بينها طفرات العلوم والتكنولوچيا والمواصلات وأثرها علي اقتصاديات الأطراف، ثم حركة الموازين السياسية العالمية والإقليمية، وتوازنات القوي، وصراعات المجتمعات سباقًا نحو التفوق بالمزايا - أو الغلبة بالسلاح إذا دعت الضرورة.
وترتيبًا عليه، فإن الأمن المصري له محوران نشيطان:
* محور جنوبي: هدفه ضمان سلامة نهر النيل وهو عصب الحياة في مصر، وهذا المحور هادئ نسبيا - حتي الآن - وكانت مصر طول التاريخ تحاول جعله هادئًا ما استطاعت، ولم تقبل أن تدخل في صراعات عليه، وساعدها في ذلك أنه لم تكن هناك قوة عسكرية في الجنوب - من منابع مياه النيل وحتي وصول فيضه إلي الأراضي المصرية - تستطيع أن تتحدي حقوق مصر علي النهر، ثم إن أحدًا لم يكن يملك وسيلة تكنولوچية تستطيع بها اعتراض تدفق مائه إلي شمال واديه.
ومن هنا فإن مصر التاريخية حرصت علي علاقة وثيقة مع إثيوبيا جسدتها الكنيسة القبطية لقرون، كما أن ملوك مصر في القرن العشرين حرصوا علي علاقات وثيقة مع شيوخ وقبائل الجنوب.
ومن هنا أيضًا، فإن مصر الثورية - في عصر «جمال عبد الناصر» - كانت علي أوثق العلاقات مع إثيوبيا الرجعية - في عصر الإمبراطور «هيلاسلاسي»، وأقر بأنني تابعت في دهشة، دخول الرئيس «السادات» معركة لا لزوم لها مع زعيم إثيوبيا الحالي «منجستو هيلامريم» تحت دعوي مقاومة الشيوعية الدولية في القرن الأفريقي، فقد بدت لي هذه المعركة متعارضة مع مطالب الأمن القومي المصري،
فليس مهما من وجهة نظر هذه المطالب: من الذي يحكم في إثيوبيا؟ - لأن تلك مسألة تخص شعب إثيوبيا، لكن المهم أن تكون علاقة مصر بالاثنين - الشعپ والحكم - في أديس أبابا سليمة، خصوصًا في غياب مبرر للاحتكاك. والحقيقة أن صراعًا عسكريا علي هذا المحور الجنوبي يجب تفاديه، كما أن مثل هذه الحرب علي ذلك المحور شبه مستحيلة - ويمكن أن تكون كابوسًا مكلفًا - وعقيمًا!
وبالتأكيد فإن هناك قوي أخري تتربص بمنابع النيل ومجاريه - في وسط وشرق أفريقيا - لكن ذلك تهديد يحتاج إلي سياسة مصرية واعية - فاهمة - ومسؤولة!
* * *
* المحور الثاني للأمن المصري هو الشمال عمومًا، والشمال الشرقي علي وجه التحديد، وبالتخصيص فلسطين، لأنها الجسر البري الذي يصل أفريقيا وآسيا في شبه برزخ بين بحرين. فهذا الجسر البري كان طريق مصر باستمرار إلي المشرق حيث تعيش بقية أمتها العربية، وكان علي مر العصور - مدخلها ومخرجها - أي بابها الحضاري والأمني والاقتصادي.
والدليل أن هذا المحور يكاد يكون الصانع الأكبر للتاريخ المصري منذ أقدم العصور:
* منه جاءتها جيوش الغزاة، وعليه وفدت أسباب العِز، ومن صوبه جاءتها المسيحية والإسلام هداية ورشدا، وكذلك جاءتها اللغة العربية ومخزونها الثقافي - قديمًا - ومتجددًا!
وتاريخ مصر من «تحتمس الثالث» إلي «صلاح الدين» إلي «محمد علي» إلي «جمال عبد الناصر» - شاهد حاضر، وعبرة شهادته أن مصر لم تفعل في التاريخ، إلا عندما وعت أهمية طريق المشرق، ولعله من هنا أن الأعداء تربصوا لها بجيوشهم عليه، من الإغريق والرومان، إلي الإنجليز وإسرائيل.
فقد أرادوا سد الأبواب عليها داخل أفريقيا.
وأكاد أزعم - يا سيادة الرئيس - أننا عرضنا قضية فلسطين خطأ علي الشعب المصري، حين صورناها له وكأنها تضامن مع شعب شقيق، فتلك ليست القضية الحقيقية، وإنما كانت القضية الحقيقية وصميم الموضوع هو الأمن المصري.
أقول عادة لكل من يناقشونني في هذا الموضوع:
- ارجعوا من فضلكم إلي مراسلات «روتشيلد» مع اللورد «بالمرستون» سنة 1840.
كانت دول الغرب قد فرغت من ضرب «محمد علي»، وفرضت عليه تلك المعاهدة المشئومة سنة 1840 التي فتحت أبواب مصر للاستيراد، وفرضت علي مصر إغلاق مصانعها وتحديد إنتاجها كمًا ونوعًا، وتقليص جيشها وسلاحه، وحصرت تأثيرها داخل حدودها، سلطنة بالإرث لأسرة «محمد علي» طالما هي «نائمة» وراء هذه الحدود - وكان ذلك بمثابة تمهيد لاغتصاب العالم العربي بأسره، ونزعه من الإمبراطورية العثمانية التي كانت رجل أوروبا المريض.
كان «بالمرستون» رئيسا لوزارء بريطانيا، وكانت بريطانيا هي القوة الأعظم ذلك العصر، وكان «روتشيلد» هو كبير أغنياء اليهود الراغبين في فتح أبواب هجرتهم إلي «الأرض الموعودة»!
ولم يجد «روتشيلد» ما يغري به «بالمرستون» علي مساعدة هجرة اليهود إلي فلسطين غير قوله في خطاب بتاريخ 18 أغسطس 1841 - بما نصه:
«إن مصر وحدها تستطيع أن تقوم بدور مؤثر في توحيد العرب بعد أن تسقط الإمبراطورية العثمانية، ولهذا فإنه يتحتم حجز هذا البلد (مصر) في موقعه وعدم السماح بخروجه إلي المشرق، وإذا استطاع اليهود إنشاء مستعمرات كافية وقوية في فلسطين، فإن هذه المستعمرات تستطيع أن تقوم بمهمة حجز مصر في أفريقيا، وهذا يعطي للقوي الأوروبية يدًا طليقة في المشرق العربي».
بعد ذلك بقرن تقريبًا، أعاد «دافيد بن جوريون» - المؤسس الفعلي لإسرائيل - صياغة مطلب عزل مصر في يومياته كاتبًا ما نصه:
«إن مصر وحدها هي التي يحسب لها حساب في المنطقة، فهي التي تقدر إذا واتتها الظروف الملائمة علي توحيد العرب، لكن مصر أشبه ما تكون بزجاجة، وعنق الزجاجة سيناء، وإذا قامت إسرائيل في فلسطين، فإن إسرائيل سوف تقوم بدور «الغطاء» الذي يمكن كبسه في عنق الزجاجة، فيحكم إغلاقة وختمه ويحبس الخطر داخل قمقم لا يخرج منه».
والواقع أن سياسة الاستعمار الغربي كانت حبس مصر في أفريقيا كلما أمكن.
ثم ورثت إسرائيل هذه السياسة باعتبارها ابنًا شرعيا، أو - ربما - غير شرعي لهذا الاستعمار الغربي.
وهكذا فإن المحور الشمالي - الجسر البري بين أفريقيا وآسيا - وشرقي البحر الأبيض - أصبح المحور الأساسي لأمن مصر، فهو المحور الحي والساخن والقابل للاشتعال، كان كذلك منذ الأزل وسوف يظل كذلك إلي المستقبل الذي يمكن حسابه!
................
إن متغيرات الاستراتيچية الدولية أضافت كثيرًا إلي أهمية هذا المحور - الشرقي - بالنسبة للأمن المصري.
فحين انتقلت البؤرة الساخنة في الاستراتيچية العالمية من قناة السويس إلي الخليج - وحين زاد اعتماد الاقتصاد العالمي علي بترول العرب وأموالهم - وحين تعاظم دور القوة البحرية والطيران وأسلحة الصواريخ - فقد أصبح تواجد مصر في المشرق اليوم أهم مما كان في أي وقت سبق.
ومن المفارقات - يا سيادة الرئيس - أن تلك كانت اللحظة التي اختارها صانع القرار المصري لخروج مصر من العالم العربي وانسحابها من الصراع علي مستقبله - بدعوي السلام ووهم الرخاء - (ولعله كان قصدًا من بعض الأطراف وخطأ من بعضهم الآخر!).
وكذلك وصلنا إلي منزلقين - كلاهما أخطر من الثاني.
* صلح منفرد مع إسرائيل (يترك مصر معزولة في أفريقيا).
* ووهم يمَنِّي نفسه والناس بما سُمي في ذلك الوقت بـ «مشروع مارشال» لمصر، (والمدهش أنه كان هناك مشروع مارشال عربي لمصر، ولم يكن هناك مشروع مارشال أمريكي - لكن البعض تمسك بالوهم وأغفل الحق عن عمد!).
إن ذلك كله، والنتائج التي ترتبت عليه، لم يؤد فقط إلي عزلة مصر عن العالم العربي، وإنما إلي تهاوي النظام العربي، وكانت تلك كارثة استراتيچية فادحة.
* * *
سيادة الرئيس
إن المنطقة التي نعيش فيها كان يتنازعها - بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية - تصوُّران لترتيب المستقبل، يتعارض كل منهما مع الآخر:
1- كانت الولايات المتحدة الأمريكية (وريثة الإمبراطوريات السابقة) تتصوَّر نظاما سياسيا وعسكريا يضم كل دول الشرق الأوسط، علي قاعدة الجغرافيا وحدها، ويوجه اهتمام دولها إلي مصر خطر واحد هو خطر الاتحاد السوفيتي. وكان منطقيا في حالة نظام شرق أوسطي - بهذا المعني الواسع - أن يشمل دولا مثل تركيا وباكستان وإيران - ومعها أو بعدها بفاصل قصير تدعي إسرائيل إلي مكان لها محفوظ، ودور فيه مقرر.
إن مصر رفضت هذا النظام منذ البداية، ورفضته من قبل الثورة حين قدم إليها، (وكان الدكتور «محمد صلاح الدين» وزير الخارجية في آخر وزارات حزب الوفد). وكان تقديمه لمصر في ذلك الوقت بمنطق أنه منظمة حيوية لملء الفجوة الدفاعية ما بين حلف الأطلنطي من ناحية، وحلف جنوب شرقي آسيا من ناحية أخري. ثم عادت مصر ورفضت نفس المشروع بعد الثورة، حين قدم إليها تحت نفس الاسم، واضطر أصحابه حينئذ إلي إقامته بغير مصر، وأصبح اسمه «حلف بغداد»، وكان قيامه سنة 1955 وكان سقوطه سنة 1958.
2- وفي مقابل نظام الشرق الأوسط فإن مصر الثورة طرحت تصورًا آخر هو «النظام العربي».
نظام يقوم علي جامعة الدول العربية ويرسخ أهدافه، يقوم علي الجامع القومي للأمة العربية ومصلحتها الواحدة وأمنها الواحد وإرادتها المستقلة.
................
وفي الحقيقة فإن مقدمات النظام العربي ظهرت من قبل الثورة، لأن فاتحته كانت إنشاء جامعة الدول العربية بتشجيع من الملك «فاروق» وبتوقيع من «مصطفي النحاس».
................
كان رأي مصر بعد الثورة أن الأساس الشرق أوسطي تعبير عن الجغرافيا وحدها، وذلك يطرح داخل النظام تناقضات طبيعية وتاريخية، لأن الهوية ليست واحدة والمصالح ليست واحدة والأمن ليس واحدا والإرادة ليست واحدة «فإن إيران مثلا لها رؤاها، وكذلك تركيا وباكستان، فضلا عن أن «إسرائيل عدو».
وانضمت سوريا والسعودية إلي مصر تلك الأيام - وموقفهم أن هناك أساسا واقعيا، طبيعيا وتاريخيا، لقيام نظام عربي تكون نظريته في الأمن مواجهة أي خطر يتهدد أي بقعة من الأرض العربية، وبرغم كل المشاكل التي اعترضت سبيل هذا النظام - من الخارج ومن الداخل - فقد كانت لديه فرصة حقيقية.
وكانت مصر - بكل المواصفات والدواعي - درع هذا النظام وسيفه.
وكانت معاركها الكبري - من السويس سنة 1956 إلي أكتوبر 1973 - دفاعا عنه، وعدا مشروعا وإمكانية تحقيق.
وفي اللحظة التي تجسد فيها الوعد - بعد حرب 1973، وأوشك النظام علي الانتقال من مرحلة التصور إلي مقدرة الخلق - خرجت مصر من إطاره.
إن حرب أكتوبر أنجزت ما أنجزت - يا سيادة الرئيس - لأن مشروع النظام العربي كله شارك فيها علي أكثر من جبهة، وبأكثر من جيش وبأكثر من سلاح عربي «من قوة النار إلي طاقة النفط».
وكانت تلك فرصة العمر، لكن الذين كان بيدهم القرار اختاروا طريقا آخر.
وكان ذلك غريبا، والأغرب منه أن مصر في ذلك الوقت بدت وكأنها تقبل بما رفضته سابقا قبل الثورة وبعدها، لأنها رأت فيه نوعا من التبعية لا تريده ولا تقبله!
ثم ظهر وكأن مصر تحاول بعث الحياة في ذلك النظام الشرق أوسطي، بعلاقة خاصة قامت بينها وبين إيران «الشاه»، ثم بعلاقة أخري كان يجري الترتيب لها منذ سنة 1974 مع إسرائيل «رابين» ثم مع إسرائيل «بيجين»!
(عفوا - سيادة الرئيس - إذ أنسب ذلك كله إلي مصر، ولم يكن لمصر فيه ذنب، بل إن مصر كانت فيه ضحية).
* * *
سيادة الرئيس
إن خروج مصر من النظام العربي - ابتداءً من سنة 1974 - أنهي حقبة من تاريخ المنطقة - ضمن سلسلة من الحقب توالت عليها منذ سقطت الخلافة العثمانية، التي كانت آخر نظام شرعي قبلت به الأمة العربية، والواقع أنه من بعد نهاية الحرب العالمية الأولي - أي بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية - توالت علي المنطقة حقب:
1ـ كانت هناك «الحقبة الاستعمارية» - وقد عاشت فترة ما بين الحربين العالميتين (الأولي والثانية) بسيطرة بريطانيا وفرنسا.
2ـ كانت هناك لفترة قصيرة من الزمن «الحقبة الوطنية» - وقد ظهرت فيها الدول العربية (وغير العربية) التي حصلت حديثا علي استقلالها في المنطقة، متصورة أن كلا منها يستطيع أن يعيش وحده - بمفرده - وسط العالم.
3ـ جاءت بعد ذلك «الحقبة القومية» وكانت مقدمتها ميثاق جامعة الدول العربية - باتفاق بين الملك «فاروق» ورئيس وزرائه وقتها «مصطفي النحاس» - وكانت تلك نقطة بداية حاولت استكمال طريقها حين خرجت مصر بعد ثورة يوليو إلي المشرق داعية وساعية إلي وحدة إرادة الأمة في إطار نظام عربي فاعل. وقد امتدت هذه الفترة - مرة أخري - من قبل حرب السويس سنة 1956 إلي ما بعد حرب أكتوبر 1973.
وبالطبع فإن هذه الحقبة القومية تعثرت سنة 1974 حين باشرت مصر انسحابها من النظام العربي.
4ـ وبانسحاب مصر من النظام العربي - بدأت حقبة جديدة هي «الحقبة السعودية» - وكانت تلك فترة تراجعت فيها - بطبائع الأحوال - أحلام الثورة، وتقدمت فيها أحلام الثروة، وبما أن السعودية كانت أغني الكل، فإنها أصبحت الدولة التي وقعت عليها مسؤولية حماية ما بقي من النظام العربي بعد انسحاب مصر من الميدان.
ولم تكن المسألة حساب الثروة بالأرقام - بل كان هناك أيضا ذلك الاعتقاد الذي ساد - بأنه إذا كان هناك طرف يستطيع الضغط علي الولايات المتحدة لكي تضغط بدورها علي إسرائيل - فإن هذا الطرف هو السعودية بما تملكه من نفط إلي جانب ما تملكه من نقد.
وأخشي أن أقول - يا سيادة الرئيس - إن «الحقبة السعودية» انتهت في بيروت أخيرا، فلقد ثبت أن قصاري ما قدرت عليه السعودية - بالنفط والنقد - إزاء الولايات المتحدة هو الترتيب لإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من حصار بيروت، ولا شيء أكثر من ذلك.
5ـ وبانتهاء «الحقبة السعودية» في بيروت - فإن المنطقة أصبح عليها أن تعد نفسها لحقبة جديدة، أخشي أنها - مع الأسف - «الحقبة الإسرائيلية».
وأمام عيوننا فإن الشرق الأوسط يشهد الآن محاولة إمبراطورية جديدة: إسرائيل، ومع التسليم بأن المحاولة محكوم عليها تاريخيا - أن المشروع في اللحظة الراهنة يقبل التعريف المتفق عليه للقوة الإمبراطورية وهو:
«دولة تملك قوة متفوقة، وتملك نزعة عدوانية لاستعمال هذه القوة في فرض هيمنتها علي آخرين، تحقيقا لمصالح رأتها وحددتها رغما عنهم جميعا».
كذلك فعلت كل قوة كبيرة وصغيرة علي مجري التاريخ، وكذلك عبرت مطالب الهيمنة عن نزعة العدوان - وشاهده ما جري - ومازال يجري في الضفة الغربية، وفي لبنان.
والحقيقة أنه مسرح عمليات واحد - عليه جبهتان!
* * *
سيادة الرئيس
أعلم أنكم متمسكون باتفاقيات «كامب ديفيد».
وأفهم - بأحكام الضرورة - أسبابكم، ومع أنني كنت ومازلت أري إمكانات أكثر اتساعا - فإن ذلك في جزء منه قد يكون اختلاف الحقائق بين صاحب المسؤولية وصاحب الرأي.
صاحب المسؤولية لا يملك غير أن يقف بقدميه علي الأرض التي يجدها تحته.
وصاحب الرأي له فرصة التحليق بجناحيه في الفضاء، «وليس في الفراغ»! وبصرف النظر عن أسباب ذلك الاختلاف، فإنني واحد من الذين يرون صلة مباشرة بين اتفاقيات «كامب ديفيد» وبين ما جري في العالم العربي وله - حتي وصل إلي مأساة - حصار أو احتلال بيروت ولو لأسابيع أو حتي لأيام:
1ـ منذ البداية كان ظاهرا لكل ذي عينين، أن مشروع الحكم الذاتي ليس فيه شيء حقيقي يمهد لحل القضية الفلسطينية.
كانت اتفاقيات «كامب ديفيد» صفقة تعيد لمصر درجة من السيادة علي سيناء بقيود وشروط، أولها خروج مصر من القضية الفلسطينية ومن العالم العربي كله - بلا قيد ولا شرط!
وحتي في وجود الرئيس «السادات» فإن محادثات الحكم الذاتي لم تصل إلي نتيجة، ولم يكن ممكنا أن تصل إلي نتيجة.
2ـ إن إسرائيل - بعد اتفاقيات «كامب ديفيد» - راحت بقسوة مخيفة تعيد ترتيب الأوضاع في الضفة الغربية وقطاع غزة علي نحو لا يمكن أن يكون له هدف غير التمهيد للضم وتحقيق وحدة «أرض إسرائيل» علي حد تعبيرهم، وأما سيناء فلم يكن لإسرائيل فيها سوي مطلب أمن، وقد حصلت فيه علي أكثر مما كانت تحلم به،
بل لعله كان يناسب إسرائيل أن تخرج من سيناء بعد أن تحقق لها ما أرادته من ضمانات الأمن، لأن استمرار احتلالها كفيل باستبقاء مصر داخل دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، وتلك دائرة تسعي إسرائيل لإخراج مصر منها، باعتبارها الطرف العربي الأقدر علي الحرب نظريا وعمليا إذا أتيحت له الظروف.
3ـ إن الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة تصدي لمحاولات إسرائيل، ولأكثر من سنتين كانت هناك ثورة مستمرة في الضفة والقطاع لم تهدأ نيرانها، وكان الوقود طابورا من الشهداء، رجالا ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، كلهم لم يخافوا بل واجهوا البطش الإسرائيلي بما وصلت إليه أيديهم من سلاح وعصي وحجارة. وكان العالم كله مأخوذا بهذا المشهد الإنساني المهيب، «من سوء الحظ أن الأمة العربية المعنية به - كانت مشغولة عن متابعته لأسباب مختلفة».
ولقد حاولت إسرائيل أن تجد ممثلين للشعب الفلسطيني تتحدث معهم، وتحل وتعقد بواسطتهم، لكن الشعب الفلسطيني كله راح يشير إلي بيروت، حيث كان ممثله الشرعي والوحيد: «منظمة التحرير الفلسطينية».
4ـ وهكذا جاء قرار إسرائيل بأن تذهب مباشرة - وبجيشها - إلي بيروت، وكان ذلك تفسيرها الحقيقي لمشروع الحكم الذاتي كما ورد في اتفاقيات «كامب ديفيد».
ولم يكن ذلك القرار مفاجئا - إلا لهؤلاء الذين لا يعرفون إسرائيل.
ولم يكن ذلك القرار مفاجئا أيضا - إلا لهؤلاء الذين لم يروا الشواهد حولهم تشير إلي مقدمات ظهور قوة إمبراطورية جديدة في الشرق الأوسط.
* * *
سيادة الرئيس
في هذه الأجواء المشحونة والمعبأة بالخطر، جاءت رئاستكم لمصر في أعقاب خريف من الغضب هبت عليها عواصفه وضربتها صواعقه.
وتطلعت الأمة العربية إلي القاهرة، واضعة يدها علي قلبها تتلمس كلمة تستطيع أن تستنتج منها أملا أو تشم ريحا تحمل نسماتها نفحة عطر.
* من ناحية كانت الأمة متشوقة لعودة مصر، لأنها رأت رأي العين عواقب غيابها أو تغييبها بمعني أدق.
* ومن ناحية أخري، فإن الشعور العام في مصر راح يطرد ويطارد بقايا خرافات حاولوا إقحامها علي خياله وعلي فكره.
ـ خرافات من نوع أن مصر ليست عربية (إذا لم تكن عربية فماذا هي؟».
ـ وخرافات من نوع أن الإسرائيلي عدو عاقل، وأن العربي صديق جاهل (ومؤدي المثل مفهوم!).
ـ وخرافات من نوع «مصر أولاً» (وكان غريبا أن يقال مثل ذلك لشعب عرف أكثر من غيره أن من يقول «أنا أولا» مثل من يقول «أنا وحدي»، وذلك في عصر لم يعد فيه بقاء لأحد وحده مهما كانت قوته (لم تقلها الولايات المتحدة ولم يقلها الاتحاد السوفيتي) - فضلا أن تكون خرافة «أنا وحدي» تحمل في طياتها تجاهلا لكل عناصر هوية وحياة وطن، التراث الحي لأمة وفيه المعتقد واللغة، فضلا عن الجغرافيا والتاريخ).
ـ وخرافات من نوع أن مصر تعزل غيرها ولا يعزلها غيرها (بنسيان أنه إذا انعزل طرف فإن العزل يصبح الحقيقة الوحيدة، سواء كان هذا الطرف هو الذي عزل نفسه بتصرفه، أو كان الآخرون هم الذين عزلوه لأسبابهم).
ـ وخرافات من نوع أن مصر زعيمة العالم العربي، وأنه لابد عائد إليها مهما طال الزمن (ناسين أن الزعامة تختلف عن الرئاسة، وفي حين أن الرئاسة فرض قانون، فإن الزعامة حرية اختيار يفرضه المثال والتجربة، كما أن الزعامة لا تتحقق بادعاء طرف لنفسه، وإنما تتحقق بالقبول الطوعي له من أطراف أخري).
* * *
ولقد دخلتم إلي القصر الجمهوري - يا سيادة الرئيس - والأمة متشوقة من ناحية، والرأي العام في مصر يطرد ويطارد بقايا الخرافات من ناحية أخري.
ولم أكن متفائلاً بفرصة عودة مصرية سريعة إلي الجامعة العربية، بل أكاد أقول لم أكن متحمسا حتي إذا كانت هناك فرصة لعودة سريعة.
كنت مقتنعا - أو قانعا - بالإشارات والاتجاهات. وكنت من أنصار استمرارها تأكيدا لمعان ومبادئ، وإعادة توثيق لعهود والتزامات.
ـ علي سبيل المثال، كنت مقتنعا وقانعا بقرار كذلك الذي أصدرتموه - يا سيادة الرئيس - بإنهاء لعبة جامعة الشعوب العربية والإسلامية «أية شعوب؟ - إذا كانت الشعوب هي الرافض الأساسي للصلح المنفرد مع إسرائيل، في حين أن معظم الحكام لم يكن لديهم مانع من إغماض العيون!».
ـ وعلي سبيل المثال، فلقد تمنيت لو أنكم أضفتم - يا سيادة الرئيس - إلي قراركم الكبير ملحقا يسمح للأمانة العامة للجامعة العربية في تونس أن تستعيد صلتها بملفاتها في القاهرة لكي يقوم تواصل بين المقر المؤقت والمقر الدائم لجامعة الدول العربية.
أكثر من ذلك - في هذ الوقت - لم أكن أريد إجراءات أخري علي طريق العودة.
لقد كان هناك في رأيي طريقان للعودة:
طريق آلي - وطريق مبدئي ومستقبلي.
* كان الطريق الآلي هو العودة إلي ما كان، في ظروف غير ملائمة وإطار لم يعد هو الآخر ملائما، لم يكن علي هذا الطريق غير مقعد في جامعة الدول العربية، لأن الظروف الراهنة والمناخ السائد في أجواء العمل العربي المشترك - لا تسمح جميعها بما هو أكثر.
وأما الطريق المبدئي المستقبلي فقد يفتح صفحة جديدة، مع ملاحظة أن فتح هذه الصفحة الجديدة يحتاج إلي فكر مختلف، وليس تكرار تعبيرات مستهلكة، «وتلك مسألة أخري علي أي حال سوف يأتي دورها».
الشرق الأوسط يشهد – الان- محاولة امبراطورية جديدة هى إسرائيل
22/1/2008
[ جمال عبد الناصر مع الزعماء العرب في احد اجتماعات القمة]
جمال عبد الناصر مع الزعماء العرب في احد اجتماعات القمة
لقد تغيرت أشياء كثيرة - يا سيادة الرئيس - منذ شردت سياسة الصلح المنفرد مع إسرائيل إلي تيه ليست له خرائط، ومن وقتها سارت قوافل كثيرة في دروب الصحراء، وفاض نفط غزير من رمالها، واختلفت صورة العالم العربي عما كانت عليه سنة 1974 اختلافا شاسعا، وبعض ما حدث - لابد أن تتحمل مصر بأمانة مسؤوليته، وبعضه الآخر - ليس من الأمانة تحميل مصر به.
لكي نعرف إلي أي مدي تغيرت الصورة - يا سيادة الرئيس - فإن ما جري في لبنان يكفينا، لا أتكلم عن الغزو ولا عن المذابح فقط، ولكن أتحدث عن الصورة العامة كلها، وهي تدعونا بإلحاح إلي دراسة بعض ملامحها:
* في ربيع هذه السنة - 1982 - كان واضحاً أن إسرائيل مصممة علي مواصلة تنفيذ ما تبقي من اتفاقيات كامب دافيد، وبعد الفراغ من الجانب المصري من هذه الاتفاقيات، وإزاء الثورة المشتعلة في الضفة والقطاع - فإن لبنان سوف يكون الهدف.
ولم يكن هناك لغز في الأمر ولا سر، فالنوايا معلنة، وسياق الحوادث كفيل بأن يقود إليها، بصرف النظر عن النوايا معلنة أو مضمرة.
ـ فقد كان الجيش الإسرائيلي يحتشد أمام جنوب لبنان.
ـ وكانت الثورة الفلسطينية تنادي ليل نهار من يريد أن يسمع نداءها.
ـ وكان تحالف القوات اللبنانية قد استكمل وسائله «منذ سنة 1974 علي الأقل بدأت القوات اللبنانية تتصل بإسرائيل، وبعد الحرب الأهلية في لبنان - 1975 - تحول الاتصال إلي اتفاق وارتباط».
منذ ذلك الوقت - يا سيادة الرئيس - وإلي بداية هذه السنة، كانت إسرائيل قد صرفت - بحسب أوثق المصادر - ما مقداره 350 مليون دولار في ست سنوات، لإعداد وتدريب وتسليح القوات اللبنانية، وكانت هذه القوات خليطاً من عناصر متعددة.
ـ ميليشيات الكتائب (تحت إمرة «بشير الجميل» الذي أصبح رجل إسرائيل في بيروت).
ـ ميليشيات «كميل شمعون» (الذي كان أول من بدأ الاتصال بإسرائيل).
ـ ميليشيات مستقلة (خاضعة مباشرة لإمرة «الموساد» - المخابرات الإسرائيلية).
يضاف إلي هذه الميليشيات بالطبع: قوات «سعد حداد».
ولم يكن هناك من لا يعرف في بيروت بوقائع ما يحدث، ولم يكن هناك من يستطيع أن يكابر فيه، ولا حتي الشيخ «بشير الجميل» الأب ومؤسس الكتائب.
وأتذكر أنني قابلته في مقر الكتائب ذات يوم من شهر فبراير 1975، وألمحت إلي صلات حزبه مع إسرائيل من بعيد، وكان رده بوضوح لا يحتمل اللبس:
«إنني علي استعداد لأن أتعاون مع الشيطان من أجل لبنان».
كان هناك كثيرون - في المنطقة كلها وليس في لبنان وحده - علي استعداد للتعاون مع الشيطان، وكل منهم لديه من أجل نفسه - وليس من أجل الأوطان - ما يتعاون فيه مع الشيطان!
* وحين بدأت عملية غزو جنوب لبنان، تأخر من كان بيدهم الحل والعقد وقتاً طويلاً قبل أن يتحركوا.
في البداية صدقوا ما كانت تقوله إسرائيل عن أن هدفها تأمين شريط حدودي بعرض 25 ميلاً في جنوب لبنان، وبدا كما لو أن ذلك لا يضايقهم كثيراً.
وتكرر علي بعض الألسنة وعلي أسنة بعض الأقلام أن كل شر يحمل خيراً في باطنه، وهكذا فإن العملية الإسرائيلية سوف تؤدي إلي تحجيم الثورة الفلسطينية التي ذهبت بعيداً في ممارسة استقلالها من وجهة نظرهم، وأصبحت عنصراً ضاغطاً علي كل الأنظمة، وقد زاد اقترابها من الاتحاد السوفيتي، ثم انضمت صراحة إلي جبهة الرفض، واشتركت في مؤتمرها الأخير في الجزائر.
أضيف إلي ذلك بنفس الألسنة والأقلام أن العملية الإسرائيلية قد تؤدي إلي تأديب سوريا، من حيث إنها سوف تكشف عجز النظام السوري عند المواجهة مع إسرائيل، ويتبدي الفارق الكبير بين ما يسمح لنفسه بتكرار إعلانه، وما يتحمل بنفسه أن يتصرف به!
وبدا لهؤلاء أن هذا كله مما لا بأس به، خصوصاً أن العراق انشغل بحربه مع إيران، وكان موقف «هؤلاء» من تلك الحرب في البداية يلخصه بدقة ما سمعته بنفسي من «أحد الأقطاب الملكيين»، وكنت أتحدث إليه ذات يوم عن تطورات القتال بين العراق وإيران، وكان تعليقه بالحرف شطرة من بيت شعر تقول «وربما تموت الأفاعي من سموم العقارب»!
* وعندما تطورت العملية الإسرائيلية فتجاوزت قواتها احتلال الخمسة والعشرين ميلاً، واقتربت من العاصمة اللبنانية، وحاصرت بيروت الغربية وفيها القوة الأساسية للثورة الفلسطينية، واحتدمت المعارك، وخرجت صورها تنقل إلي الدنيا مشاهد البطولة والاستشهاد، وجرائم الغزو وفظائعه - فإن الرأي العام العربي كله انتفض ليسأل، وكان يمكن له بعد السؤال أن يحاسب وأن يعاقب.
لكن الذين كان بيدهم الحل والعقد في العالم العربي تلك الأوقات سارعوا إلي الحركة.
ـ كان أول ما فعلوه هو أن الصور والأفلام القادمة من بيروت أخضعت لرقابة صارمة، بحيث لا تحول موادها إلي شحنات متفجرة بعيداً عن بيروت (وهكذا فإن الرأي العام العربي - معظمه علي الأقل - جري عزله عن المشاهد الحقيقية لما جري ويجري، حتي لا تستثار أو تثور مشاعره بما تصعب السيطرة عليه، وكان كثيرون - ومازالوا - يتعجبون لأن الرأي العام العالمي انفعل بمأساة لبنان أكثر مما انفعل بها الرأي العام العربي، وكان السبب في الواقع أن الصورة الكاملة لم تظهر أمام الناس إلا للقلة القادرة علي المتابعة عن طريق الوسائل الخارجية، بينما الجموع الغفيرة ظلت معزولة عنها بالكامل).
ـ ثم كانت الخطوة الثانية فيما فعلوه هي الهرولة إلي الولايات المتحدة.
ولم يكن لدي واحد من «هؤلاء» - أو من غيرهم - شك في أن الولايات المتحدة أعطت الضوء الأخضر للدخول الإسرائيلي العسكري إلي لبنان، لكن «مقولة» الضغط علي الولايات المتحدة كانت الورقة الوحيدة الباقية في أيديهم - علي الأقل «ببيع الوهم» للناس.
وفي حقيقة الأمر فإنه لم يكن هناك ضغط مؤثر لأن واقع الحال كان يكشف أن حاجة الذين يضغطون - إلي الولايات المتحدة، أشد من حاجة الولايات المتحدة إلي هؤلاء الذين يضغطون، وهكذا فإن الضغط لم يلبث أن تحول إلي رجاء، ولم يلبث الرجاء أن نزل إلي ما دون الاستعطاف وطلب الرحمة.
ـ أسوأ من ذلك، فقد بدأت إسرائيل تضغط علي الولايات المتحدة، لكي تضغط بدورها علي أصدقائها في المنطقة، لكي يضغط هؤلاء الأصدقاء بدورهم علي الثورة الفلسطينية، لكي تخرج من لبنان، مقابل وعد بأنها إذا خرجت - مطيعة ومؤدبة - من بيروت، فإن الولايات المتحدة سوف تقبل أن تتحدث معها!
حتي هذا الوعد لم يكن صادقاً، أو لم يكن صحيحاً.
ولم يكن ذلك كل ما حدث في لبنان.
بعد الغزو وبعد المذابح، أصبحت بيروت أكبر مسارح اللامعقول - علي الطبيعة وفي الواقع، وليس بالفن أو التمثيل.
تصوروا - يا سيادة الرئيس - عاصمة عربية احتلتها قوات الغزو الإسرائيلي، ومع ذلك كان لها رئيس جمهورية يمارس ما يسميه عمله الشرعي، بينما ترابط أمام قصره قوات مدرعة من دبابات العدو، وكانت المشاورات تجري في ذلك القصر،
بينما سيارات المشاركين فيها تتقابل وتتداخل مع دوريات الاحتلال، وكان هناك مجلس نواب يجتمع وينتخب رئيساً جديداً - بينما الجنرال «شارون» غير بعيد عن الثكنة التي تمارس فيها العملية الانتخابية، بل وحدث أن بعض الذين تلاقوا في الثكنة لوضع أسس الشرعية الجديدة في لبنان، جري خطفهم بقوة السلاح لاستكمال النصاب القانوني - ! - وأمام فوهات المسدسات والمدافع الرشاشة جري وضع البطاقات في سلة من القش!
هل يمكن أن يحلم مسرح اللامعقول بأكثر من ذلك؟
لا يتوقف اللامعقول عند هذا الحد، لأن الرئيس المنتخب - أو المفروض من إسرائيل في ذلك الوقت - «بشير الجميل» اضطر إلي إعادة حساباته، إزاء ضغوط تتصل بمصالحه أكثر من اتصالها بواجباته:
ـ إذا أراد أن يكون رئيساً لكل لبنان، فعليه أن يأخذ في حسابه وزن المسلمين فيه.
ـ إذا أراد أن يتأكد من بقاء شرق وشمال لبنان - سهل البقاع وشماله الغربي إلي طرابلس - فإنه مطالب بأن يجد صيغة التفاهم من نوع ما مع سوريا، لأن سوريا بالنسبة للبنان ليست مجرد جوار، وإنما سوريا ولبنان قضية متداخلة ومتشابكة في الأرض والأمن والمصالح، بل والعائلات، وهكذا فإن العنصر السوري أساسي في المعادلة اللبنانية مهما قال القائلون!
ـ إذا أراد أن يضمن إعادة تعمير لبنان، فإن المصدر الوحيد لتمويل التعمير يصعب أن يجيء من غير دول البترول العربية، وهذه لا تستطيع قبوله رئيساً يمثل إرادة إسرائيل الصريحة، ثم إن تجاهل المسلمين في لبنان - ليس أفضل أسلوب يقدمه إلي دول البترول.
ـ كانت هناك أيضاً بالنسبة له مشكلة «سعد حداد» الذي تريد إسرائيل مكافأته علي خدماته، بإيجاد دور له في لبنان الجديد، الذي تقوم هي بإعادة ترتيب أموره، بعد أن أصبحت قوة إمبراطورية مسيطرة عليه (وعلي غيره)!. وقبول «سعد حداد» والتعامل معه قضية بالنسبة لبشير الجميل، وإلي جانب المحاذير الوطنية في هذه القضية، فقد كان مؤكداً أنها لن تكون مقبولة من أمراء الجبل، لأنها تفتح الباب لزعماء ميليشيات قادمة من السفوح!
ولقد تشجع «بشير الجميل» بالدور الأمريكي الذي نشط بشدة في لبنان، حتي أصبح هذا الدور وسيطاً بين القوة الإمبراطورية الجديدة وبين بقية المذعورين منه حول لبنان، والذين لم تعد لهم حماية إلا تحت المظلة الأمريكية.
وعندها تصور «بشير الجميل» أنه يستطيع نقل ولائه من إسرائيل إلي الولايات المتحدة، وكانت الولايات المتحدة علي استعداد لفهم مصاعبه.
كانت تستطيع أن تفهم:
- لماذا مثلاً لم يقم بدوره المرسوم في خطة الغزو الإسرائيلي، وهي خطة كانت تضع عليه عملية اقتحام بيروت الغربية حتي لا تفقد فيها إسرائيل من الخسائر البشرية أكثر مما تطيق احتماله (وكانت إسرائيل عاتبة عليه لهذا السبب في ذلك الوقت).
- لماذا مثلاً لا يستطيع أن يتعهد علناً بتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، وكان قد وعد بذلك، واكتشف بعد انتخابه أنه لا يستطيع وراح يماطل ويتلمس المعاذير (وفيها موقفه من المسلمين في لبنان - والعامل السوري في المعادلة اللبنانية - وحاجة لبنان إلي أموال البترول للتعمير).
كانت الولايات المتحدة في ذلك الوقت صاحبة اقتراح عقد معاهدة عدم اعتداء - وليس اتفاقية سلام - بين إسرائيل ولبنان، وتقديرها أن مثل هذه المعاهدة يمكن بيعها للعرب علي أساس أنها لا تقيد لبنان بشيء (كما حدث مع مصر)، لأن «بشير الجميل» - ليس اليوم ولا غداً أو بعد غد - في موقف يسمح له بالهجوم علي إسرائيل، وإنما العكس، لأن هذه المعاهدة تعطي للبنان شيئاً، في حين أن لبنان لا يعطي بها شيئاً يؤثر في موازين الصراع!
ولم يتوقف مسرح اللامعقول.
كان «مناحم بيجين» يري أن «بشير الجميل» يماطل معه ويسوّف، وأن الأحلام تراوده وتداعبه بنقل ولائه من إسرائيل إلي الولايات المتحدة.
وبعث إليه «بيجين» يهنئه بانتخابه، ولم يرد «بشير الجميل» علي التهنئة.
ودعاه «شارون» ورئيس المخابرات الإسرائيلية إلي لقائهما في قريته بكفيا، وطلب «بشير» تأجيل الاجتماع.
وتصرف «بيجين» بأسلوبه، وبعث يستدعيه بحزم إلي «نهاريا»، حيث كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يقضي إجازة، وحملت طلب الاستدعاء قوة خاصة من الجيش والموساد. وكان علي «بشير الجميل» أن يركب الهليكوبتر إلي «نهاريا» برضاه، أو يحمَل إليها بغير رضاه، وركب، وذهب إلي جناح «بيجين» في فندق «نهاريا».
وأنقل هنا - يا سيادة الرئيس - رواية شاهد حضر هذا الاجتماع من مستشاري «بشير الجميل» وهو مستشار أمريكي:
«دخلنا جناح «بيجين» وكان هناك وزير الدفاع «شارون» وبعض مساعدي رئيس الوزراء.
وراح «بيجين» يتكلم في الأوضاع والتطورات، و«بشير الجميل» في موقف الدفاع عن النفس.
وفجأة طلب «بيجين» خروج الآخرين جميعاً من الغرفة وأقفل الباب عليه وعلي «بشير الجميل» وحدهما، وبعد 45 دقيقة فتح الباب وخرج «بشير الجميل»، ولاحظنا جميعاً أنه ممتقع الوجه.
وعادت بنا الهليكوبتر إلي بيروت، وفي بيروت أخرج «بشير الجميل» ورقة من جيبه، قال إن «بيجين» سلمها له، كان فيها نص مشروع معاهدة سلام، ثم قال لنا «بشير»:
- إن «بيجين» سلمني هذا المشروع، وأضاف قائلاً لي: «إنك سوف تتولي رئاسة الجمهورية رسمياً يوم 23 سبتمبر، وقبل نهاية ذلك الشهر - أي في ظرف أسبوع واحد - يتحتم أن يصلني توقيعك علي هذا الاتفاق».
وسكت «بشير الجميل» ثم استطرد:
- لا أعرف ماذا أفعل؟ - إذا لم أنفذ، فلن أكون مطمئناً علي حياتي».
الغريب - يا سيادة الرئيس - أن «بشير الجميل» أطلع أمريكيين رسميين علي كل ما حدث، وبعث لبعض العواصم العربية بطرف منه، وتصور كثيرون أنه يبالغ.
لكن الإسرائيليين عرفوا برسائله.
وتفجّر بيت الكتائب بعد أيام، وسقطت أنقاضه فوق جثة «بشير الجميل»، تعامل مع الشيطان (وفق نظرية والده)، وكان عليه أن يدفع حتي النهاية للشيطان، ودفع، ولم تكن إسرائيل هي التي نفذت العملية بنفسها، فهي أذكي من ذلك وأخبث، وإنما كان التنفيذ عن طريق بعض فصائل القوات اللبنانية المتعاملة مباشرة مع إسرائيل دون وساطة
أي مشيخات سياسية (هناك من هؤلاء ثلاثة آلاف تعاملهم مع المخابرات الإسرائيلية رأساً) - ومَنْ غير هؤلاء كان يستطيع أن يصل إلي مقر الكتائب؟، ومَنْ غيرهم كان يستطيع أن يعرف أن «بشير الجميل» سوف يكون فيه تلك اللحظة؟ ومَنْ غيرهم كان يملك الوقت والأدوات اللازمة لتنفيذ العملية بهذه الدقة والكفاءة؟!
* * *
سيادة الرئيس
تحت هذه السماء الملبدة بالغيوم اجتمع مؤتمر القمة العربية في «فاس».
كان المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي -!!- يلمع كسياط البرق وسط أصداء هدير الرعد القادم من بيروت، وكان المشروع القومي العربي يتراجع علي الأفق ويغيب في السحب الداكنة!
وكان مهيناً أن العرب وقد تراجعوا حتي الخندق الأخير لم يعد بينهم وبين الغطرسة الإسرائيلية غير حاجز واحد لم يبق غيره، وهو حسن الظن في الولايات المتحدة.
ولقد نستطيع القول - بغير مبالغة وبغير تجنٍ - إن هذا المؤتمر في «فاس» كان قمة الملوك.
كان الملك «الحسن الثاني» علي رئاسته، وقد غير تقاليد مؤتمرات القمة العربية، وأخذ تقاليد قمم أخري حين حدد أن المؤتمر سوف يظل تحت «رئاستنا» للسنة القادمة حتي ينتقل إلي رئاسة الملك «فهد» الذي تقرر أن يستضيف المؤتمر القادم - سنة 1983 - في «الطائف».
بل إن الملك «الحسن» أزاح جانباً دور الأمين العام للجامعة العربية، وعين وزير خارجيته متحدثاً رسمياً باسم القمة، ثم وضع الملك «نقطة» علي «حروفه» - فقال في معرض مناقشة بينه وبين بعض الساسة من «العامة» الذين أتيح لهم حضور المؤتمر: «لقد كانت الأمور في أيديكم سنين طويلة، وعليكم الآن أن تتركوا لنا الفرصة لنعمل»، وبالطبع فإن صيغة الجمع هنا كانت هي بعينها صيغة الجمع الملكية «نحن...».
وعلي أي حال فقد كانت الأمور محسومة بحكم الأمر الواقع، فمادامت الأمة العربية قد أصبحت في الخندق الأخير، ومادام لم يعد بينها وبين الغطرسة الإمبراطورية لإسرائيل غير حاجز واحد هو الولايات المتحدة - إذن فإن كلام غير الملوك تطفل وتزيد.
ولقد أسمح لنفسي - يا سيادة الرئيس - وأرجو أن يكون حساب ذلك علي، لا شأن لكم ولا لمصر به - أن أعترض بكل أدب وبكل احترام علي مقولة «الحسن الثاني» بأن «الأمور كانت في أيديكم سنين طويلة، وعليكم الآن أن تتركوا لنا الفرصة لنعمل».
الحقيقة أن كل الأمور كانت في أيديهم منذ سنة 1974، وربما قبلها.
* كان الملوك هم الذين أقنعوا الرئيس «السادات» بأن الحل كله فى ىد أمرىكا، وأن أمرىكا لن تقترب منه طالما الاتحاد السوفىتى موجود فى المنطقة، وأول خروج السوفىت خروج سلاحهم.
وخرج السلاح السوفىتى من المنطقة، وأصبحت أكتوبر آخر الحروب، وأصبح خىار الحرب بىن العرب وبىن إسرائىل غىر وارد، فالسلاح السوفىتى وحده هو السلاح الذي استطاع به العرب أن يدافعوا عن أنفسهم، وباختفاء خيار الحرب المحتملة فقد اختفي خيار السلام الممكن، لأن السلام بدون خيار الحرب لا يكون سلاماً،
والمفاوضات - أي مفاوضات في الدنيا - مرهونة بموازين قوة، وما لم يكن في مقدور أي طرف من الأطراف أن يقول علي مائدة المفاوضات «هذا هو الحد الأدني لما أستطيع القبول به، وما لم أحصل عليه هنا فسوف أحاول ذلك بوسائل أخري» - فإن هذا الطرف عليه أن يتفاوض إلي الأبد، وبغير نتيجة، وإذن فإن خيار الحرب هو الضمان الوحيد لخيار السلام!
* ولكي نكون أمناء أيضاً، فلقد كان أحد أصحاب الجلالة - الملك «الحسن» بنفسه - هو الذي مهّد لأول مفاوضات مباشرة بغير شروط بين مصر وإسرائيل، وهو الذي نقل الرسائل الأولي بين رئيس الوزراء «إسحق رابين» والرئيس «السادات» سنة 1974، وهو الذي استضاف في قصره اجتماع «موشي ديان» ممثلاً لمناحم بيجين و«حسن التهامي» ممثلاً للرئيس «السادات» مضي إلي أبعد مما تصورناه أو كنا مستعدين لقبوله» - لأن مجرد الاجتماع أسقط سلاح الرفض العربي لإسرائيل.
(بعض الناس يقولون إن سلاح المقاطعة الكاملة لإسرائيل غير حضاري، وأنه إذا كانت إسرائيل حقيقة قائمة، فإن رفض الاعتراف بها جهل! - ولا يكلف هؤلاء أنفسهم عناء فهم موقف الولايات المتحدة مثلاً إلي رفض وجود الصين الشعبية أكثر من عشرين سنة تغيرت فيها موازين القوي العالمية، ثم كان بعد -
هذه العشرين سنة - وعلي ضوء مصالح متغيرة، أن الولايات المتحدة اعترفت بأن الصين موجودة - وكذلك لم يكلف هؤلاء أنفسهم عناء فهم دوافع إسرائيل إلي رفض الاعتراف بوجود شعب فلسطيني كانت الأرض كلها له، ولم يبق معه الآن إلا طلب الحق في تقرير مصيره!
أليس عجيباً أن إسرائيل رفعت حظرها أخيراً عن الموسيقي العظيم «شتراوس»، وكانت من قبل تقاطع أي حركة في موسيقاه، لأنه تولي منصباً في إدارة إحدي الفرق الكبري أثناء حكم النازي؟ - أليس عجيباً أن إسرائيل - وحتي اليوم - تفرض حظراً علي الموسيقي العظيم «فاجنر» لأن موسيقاه كانت بين مصادر الإلهام الجرماني لـ«أدولف هتلر»!!).
وإذا انتهي خيار الحرب. وإذا تم الاعتراف.
فما الذي يبقي للتفاوض؟
وأشهد - يا سيادة الرئيس - أنني كنت أشعر بالحرج في أعماقي - عندما كان وفد القمة العربية يتوجه إلي الولايات المتحدة ليعرض عليها مقررات القمة العربية محلاة بمشروع «ريجان»، مطعّمة بمشروع «فهد»، مضافاً إليها مشروع «بورقيبة».
خليط يستعصي علي المزج، وعلي الفهم!
وقد رفض «ريجان» قبل وصولهم أن يكون بين أعضاء وفد القمة - حين يستقبله - ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وقبلوا.
ثم كان اللقاء مع «ريجان»، وقد قال لهم فيه أكثر مما سمع، وكان ملخص قوله نفس ما تقول به إسرائيل تقريباً: «لا دولة فلسطينية، ولا اعتراف بمنظمة التحرير، ولا عودة إلي خطوط ما قبل 1967، ثم إنني لا أسمع منكم كلاماً أهتم به قبل أن تعترفوا جميعاً بإسرائيل، وقبل أن تجلسوا معها».
وخرجوا من عنده يتحدثون عن القانون، ويجاهدون بمواده، ناسين أنه علي مستوي الأفراد أو علي مستوي الأمم، فإن أي قانون لا يساوي الورق الذي كتب عليه إلا إذا كانت وراءه سلطة إجبار.
وسلطة الإجبار في القانون علي المستوي الفردي - قوة البوليس.
وسلطة الإجبار في القانون علي المستوي الدولي - قوة الجيوش.
وإلا فإن القانون - محلياً ودولياً - يبقي قصاصة ورق، مهما كانت النصوص عادلة وحكيمة، وكانت الألفاظ مهيبة وبليغة!
ومع ذلك، فمن منا - يا سيادة الرئيس - لا يتمني من صميم قلبه أن ينجح الملوك؟
أشهد - بأمانة - أن تعاطفي اليوم شديد مع واحد منهم، أشعر أن الظروف وضعته بين المطرقة والسندان، وهو الملك «حسين»، ذلك أن المطلوب منه صناعة المستحيل.
تطالبه الولايات المتحدة بأن يتحدث عن الفلسطينيين، وهو يعلم علم اليقين أن إسرائيل لن تتنازل لهم عن شيء.
ويطالبه بقية العرب - وبقية الملوك - بأن يتفاهم مع الفلسطينيين، وهو يعلم علم اليقين أنهم لا يملكون التنازل له عن شيء.
وهو واقف وسط الساحة، يحاول أن يقوم بدور يدرك سلفاً - بتجربته ويقينه - أنه مؤدٍ إلي أبواب مسدودة.
وهو علي أي حال يحاول ويحاول لعل وعسي، عارفاً في أعماقه أنه ليس هناك «لعل»، وليس هناك «عسي»!
* * *
سيادة الرئيس
ذلك كله خارج موضوعي علي أي حال، ما يعنيني بهذا الحديث الآن هو مصر، والحقيقة أنني لست أعرف ما الذي دعا إلي طرح مسألة عودة مصر إلي الجامعة العربية في هذه الظروف.
ولقد كان الرئيس «جعفر نميري» هو الذي تبرع وتطوع لطرح هذه المسألة علي القمة، ومع أن تأجيل مناقشتها من مستوي وزراء الخارجية إلي مستوي الملوك والرؤساء كان ينبغي أن يلفت نظر الوفد السوداني إلي أن الجو ليس ملائماً بعد، فإن الرئيس «نميري» - بحسن نية - فتح باب المناقشة فيه علي مستوي القمة.
ولم يكن الجو مهيأ لعدة أسباب، رغم أن بعض المشاركين في المؤتمر قالوا بصدق كلاماً لا يحتمل التأويل عن مصر، وكان بينهم بالتحديد الرئيس «صدام حسين» والملك «حسين» والسيد «ياسر عرفات».
لم يكن الجو مهيأ لعدة أسباب بينها:
1- أن ظروف مصر لم تسمح لها بعد بإعادة ترتيب أولوياتها، وحتي يحدث ذلك فليس هناك ما يبرر دعوتها إلي العودة غير مجرد حسن المقاصد ونبل العواطف، وتلك كلها ليست دعائم سياسية.
2- أن الفراغ الذي تركته مصر ملأه غيرها، أو حاول، وهذه طبيعة أي فراغ.
وبعض الذين ملأوا الفراغ - ربما بدون قصد منهم - لهم مخاوفهم من مصر، بحجمها بالنسبة لهم، ودورها قد يدفعهم إلي أبعد مما يريدون، ثم إن فكرها عندما ينطلق فيه الكثير من خواص النور والنار، وكلاهما لا بأس به إذا كان بعيداً، وكانت هي التي قررت بنفسها مسافة البعاد، ثم إنه لا بأس من بقاء مصر محاصرة، لأن خروجها من الحصار قد يأتي معه بآثار يصعب احتواؤها.
3- أن هناك أطرافاً تسلم بأن دور مصر لا يمكن إسقاطه من الحساب، لكن بعض هؤلاء الأطراف - وكلهم علي صلة بمصر - يفضلون علاقاتهم معها ثنائية، بحيث يحاول كل منهم أن يستثمرها من الباطن.
4- أن هناك بينهم من يتصور أن مصر تريد أن تعود لأنها محتاجة إلي المساعدات العربية، (ومن سوء الحظ أن بعضاً منا هنا شجع هذا التصوُّر).
5- أن عدداً من الأطراف يريد إبداء التشدد حيال مصر، لعل هذا التشدد أن يكون غطاء للتساهل مع غيرها.
والمصائب كلها تعلق علي «كامب دافيد»، حتي لا يلتفت أحد إلي ما جري قبلها ولا إلي ما جري بعدها، وكأن «كامب دافيد» وحدها مقطوعة من شجرة.
* * *
ولم ينفتح باب القمة أمام عودة مصر، وربما كان ذلك خيراً.
أقول في النهاية - يا سيادة الرئيس - إن مصر عائدة إلي أمتها العربية حتماً - فذلك قدرها.
وأقول أيضاً إن عودة مصر لن تكون - ولا يجب أن تكون - من باب القمة، فذلك أقل من قدرها.
أتجاسر وأقول أخيراً - يا سيادة الرئيس - إن مصر سوف تعود إلي أمتها العربية في نفس اللحظة التي تعود فيها مصر إلي نفسها، وإلي حقائق وثوابت الجغرافيا والتاريخ، آخذة في اعتبارها - بفهم وعلم - متغيرات الظروف الإقليمية والدولية، وحقائق ووسائل العصر.
وتلك - يا سيادة الرئيس - مسؤوليتكم تضعها المقادير أمامكم، ووراءكم فيها شعب بأكمله يعرف أن المسؤولية ليست مهمة أيام أو شهور أو حتي سنة كاملة.
لكم كل الاحترام من مواطن يؤمن في صميم قلبه بأنه ليس هناك مستقبل لمصر بدون أمة عربية، بمقدار ما أنه ليس هناك مستقبل للأمة العربية بدون مصر.
22/1/2008
كان المقال الرابع محاولة للإطلال علي الساحة العربية، والأوضاع والإمكانيات القائمة فيها، وكان ذلك عن يقين بأنه من الصعب تصور مستقبل لمصر معزول عن بقية العالم العربي. وكانت الأوضاع في مصر وقتها - وفي العالم العربي أيضًا - تقتضي الالتفات إلي ظروف وملابسات جارية وشائكة، وقابلة لمضاعفات يحتمل أن تكون خطرة.
وفي ذلك الوقت كانت مصر خارج جامعة الدول العربية، وكان مقر الجامعة قد ترك القاهرة مهاجرًا إلي تونس، وتقرر في لحظة فوران أن يقوم بدلا منها كيان اسمه جامعة الشعوب العربية، وقيل: إن الحكومة المصرية سوف تمنحها مبني جامعة الدول العربية - ليكون مقرًا لها، ثم تبين أن الشعوب العربية أكثر غضبًا من حكوماتها، كما أن مبني الجامعة في القاهرة ليس ملكًا للحكومة المصرية، وتعثرت الخُطي، ثم تغيرت الظروف. وكانت هناك محاولات وتحركات... وكانت بعض المحاولات والتحركات خالصة، وبعضها الآخر مشوبًا، وبدا أن اللحظة المعاصرة سوف تمد تأثيرها - بالضرورة - إلي المستقبل تؤثر فيه وتشكل ملامحه!
ولسوء الحظ فإن المقدور وقتها - طبع الحاضر علي صورته!
نوفمبر 2003
نوفمبر 1982
سيادة الرئيس
يشجعني كرمكم أن أواصل حديثًا توجهت به مباشرة إليكم بعد عام كامل من التأييد ثم الصمت.
وهذه المرة أجدني مشغولاً بهموم أمتنا العربية ودور مصر ومسؤوليتها وواجبها إزاء هذه الهموم - وكلها مما يمكن أن نسميه قضايا مصير.
ولذلك فقد أسمح لنفسي وبدون مقدمات - أن أعترف بالعجز عن فهم سياسة مصر العربية، كما أنني غير قادر علي متابعة خطاها، ولعل الخطأ مني والذنب علي، ومع ذلك فلقد قلت من قبل وأكرر: إن أي إنسان لا يستطيع أن يصف غير ما يري!
هكذا فإن كلامي عن سياسة مصر العربية الآن هو وصف لما أراه لا أكثر ولا أقل، وما يمكن إجماله في ملاحظتين:
* الملاحظة الأولي: أن مصر - فيما يظهر أمامي - توَّاقة إلي كسر طوق العزلة التي تحيط بها وتباعد ما بينها وبين أمتها العربية - وهذا مطلب سليم.
* والملاحظة الثانية: أن مصر لم تحدد لنفسها بعد خطة، ولهذا فإن حركتها نحو هذا المطلب السليم - لا تبدو لي ظاهرة العزم واثقة الخُطي.
* * *
وبالنسبة للملاحظة الأولي فإن الأمر لا يحتاج إلي كثير من التفصيل، والواقع أن قراركم بتجميد نشاط تلك الدمية الخرساء التي أطلقوا عليها وصف «جامعة الشعوب العربية والإسلامية» - جاء مؤشرًا علي رغبة مصر في فتح الأبواب الموصدة، وفي نفس الوقت فقد نُشرَت لكم تصريحات عديدة تؤكد نفس التوجه.
وأما بالنسبة للملاحظة الثانية فقد يكون بعض التفصيل لازمًا بقدر ما هو ضروري للشرح.
* وعلي سبيل المثال فقد جرت بعض الاتصالات مع المملكة العربية السعودية، وكان بين هذه الاتصالات سفركم إلي الرياض لتقديم العزاء في وفاة الملك «خالد»، وتقديم التهنئة إلي الملك «فهد» - لكن وسائل الإعلام المصرية بالغت في عرض الخبر علي نحو دعا الديوان الملكي السعودي إلي إصدار بيان رسمي يقول: «إن الزيارة كانت في إطار المجاملات الودية، وإن لقاءكم بالملك «فهد» جري في مجلس عام، ولم يتطرق بشيء إلي القضايا السياسية». وأعترف بأنني لم أشعر بالراحة وأنا أقرأ سطور هذا البيان، فقد بدت لي فيه نبرة تحفظ سعودي لا تحتاج مصر إليه.
نفس الشيء تكرر في بيان من الديوان الملكي السعودي بعدما نُشر - في وسائل الإعلام المصرية أيضًا - بأن مشروع التكامل بين مصر والسودان لقي مباركة الملك «فهد» - وذلك أيضًا لا تحتاج مصر إليه.
ولقد كان يمكن أن نجامل السعودية بالعزاء وبالتهنئة بوفد مصري علي مستوي عال، يكون ظاهرًا للعيان في تشكيله أنه وفد مجاملة - لا أكثر ولا أقل - حيث الحدود واضحة، والحرمات مصونة!
يلي ذلك أن ميثاق التكامل بين مصر والسودان لم يكن في حاجة إلي طلب البركات من أحد.
* وعلي سبيل المثال أيضًا، فإن مصر قامت ببعض الاتصالات مع المملكة الهاشمية الأردنية، وأعرف أن رسائل تبودلت بين الملك «حسين» وبينكم، بل أعرف أن أحد مستشاريكم قابل الملك لحديث طويل، لكني دُهشت حين زرت فرنسا خلال شهر أغسطس الماضي، فإذا بأحد أركان الحكم في باريس يقول لي «إنكم ذهبتم إلي زيارة لسلطنة عمان للقاء جري ترتيبه بينكم وبين الملك «حسين»، لكن الملك لم يصل في الموعد المضروب، وكان الاعتذار الذي قدمه السلطان «قابوس» أن الملك تخلف لأن اليوم يصادف عيد جلوسه!».
وبدا لي أن السلطان - الذي رتَّب للمقابلة - لابد أنه يعرف موعد عيد جلوس ملك الأردن، وسواء كان السلطان يعرف أو لا يعرف فإن هناك مسؤولية لا يصح التهاون فيها مع كل رسمي مصري شارك في الإعداد أو التحضير لهذا اللقاء أو لهذا الخطأ غير المقبول، لأن مصر ورئيسها أكبر كثيرًا مما يتصوَّر كل هؤلاء الذين سمحوا لأنفسهم أن يقعوا في مثل هذا الخطأ.
* وعلي سبيل المثال أيضًا، فإن مصر قامت ببعض الاتصالات مع منظمة التحرير الفلسطينية، لكن هذه الاتصالات أخذت في وسائل الإعلام المصرية - مرة أخري - ما هو أكبر من حجمها الحقيقي، وبدا الأمر وكأن مصر تريد أن تضع نفسها في الصورة، وتريد أن تقنع آخرين بأنها فاعلة في القضية، ولم يكن ذلك دقيقًا، وكانت المبالغة في تصوير دور مصر ضارة، خصوصًا أمام العارفين والفاهمين.
* وعلي سبيل المثال أخيرًا، فإن مصر عقدت مع السودان اتفاق تكامل - لم أكن متحمسًا له، وإن لم أكن بالتأكيد ضده - لكن كل شيء لابد أن يجيء بمعيار، خصوصًا أن تلك لم تكن المرة الأولي أو الثانية أو الثالثة التي توقع مصر فيها مثل هذا الاتفاق مع السودان.
وظني أن التكامل - إذا أريد له أن ينجح - يحتاج إلي ما لا يملكه الطرفان الآن من الموارد والحقائق!
وفي بداية الأمور ونهاياتها، فإن الالتفات للسودان - مع فائق أهميته - ليس بديلاً عن دور مصر العربي - وبالغ خطورته.
* * *
وقد أكون مخطئًا - يا سيادة الرئيس - فيما رأيت ولاحظت، لكني أصدر فيما أقول عن نظرية للأمن القومي المصري، أومن بها، وأستأذن في عرض خطوطها الرئيسية أمامكم علي النحو التالي:
1- إن إستراتيچية أي وطن لا تكفيها أهواء الزعماء والحكام، وإنما تفرضها ثوابت الجغرافيا أولاً، ثم تحركها دواعي التاريخ ثانيا.
وبالتأكيد فإن الجغرافيا أهم الثوابت، لأنه علي الرقعة الجغرافية لأي بلد تنمو مصالحه، وتزدهر ثقافته، وتتحدد ارتباطاته الإنسانية والحضارية، وكذلك تبرز - في الغالب - مكامن الخطر عليه. وأما المتغيرات فمن بينها طفرات العلوم والتكنولوچيا والمواصلات وأثرها علي اقتصاديات الأطراف، ثم حركة الموازين السياسية العالمية والإقليمية، وتوازنات القوي، وصراعات المجتمعات سباقًا نحو التفوق بالمزايا - أو الغلبة بالسلاح إذا دعت الضرورة.
وترتيبًا عليه، فإن الأمن المصري له محوران نشيطان:
* محور جنوبي: هدفه ضمان سلامة نهر النيل وهو عصب الحياة في مصر، وهذا المحور هادئ نسبيا - حتي الآن - وكانت مصر طول التاريخ تحاول جعله هادئًا ما استطاعت، ولم تقبل أن تدخل في صراعات عليه، وساعدها في ذلك أنه لم تكن هناك قوة عسكرية في الجنوب - من منابع مياه النيل وحتي وصول فيضه إلي الأراضي المصرية - تستطيع أن تتحدي حقوق مصر علي النهر، ثم إن أحدًا لم يكن يملك وسيلة تكنولوچية تستطيع بها اعتراض تدفق مائه إلي شمال واديه.
ومن هنا فإن مصر التاريخية حرصت علي علاقة وثيقة مع إثيوبيا جسدتها الكنيسة القبطية لقرون، كما أن ملوك مصر في القرن العشرين حرصوا علي علاقات وثيقة مع شيوخ وقبائل الجنوب.
ومن هنا أيضًا، فإن مصر الثورية - في عصر «جمال عبد الناصر» - كانت علي أوثق العلاقات مع إثيوبيا الرجعية - في عصر الإمبراطور «هيلاسلاسي»، وأقر بأنني تابعت في دهشة، دخول الرئيس «السادات» معركة لا لزوم لها مع زعيم إثيوبيا الحالي «منجستو هيلامريم» تحت دعوي مقاومة الشيوعية الدولية في القرن الأفريقي، فقد بدت لي هذه المعركة متعارضة مع مطالب الأمن القومي المصري،
فليس مهما من وجهة نظر هذه المطالب: من الذي يحكم في إثيوبيا؟ - لأن تلك مسألة تخص شعب إثيوبيا، لكن المهم أن تكون علاقة مصر بالاثنين - الشعپ والحكم - في أديس أبابا سليمة، خصوصًا في غياب مبرر للاحتكاك. والحقيقة أن صراعًا عسكريا علي هذا المحور الجنوبي يجب تفاديه، كما أن مثل هذه الحرب علي ذلك المحور شبه مستحيلة - ويمكن أن تكون كابوسًا مكلفًا - وعقيمًا!
وبالتأكيد فإن هناك قوي أخري تتربص بمنابع النيل ومجاريه - في وسط وشرق أفريقيا - لكن ذلك تهديد يحتاج إلي سياسة مصرية واعية - فاهمة - ومسؤولة!
* * *
* المحور الثاني للأمن المصري هو الشمال عمومًا، والشمال الشرقي علي وجه التحديد، وبالتخصيص فلسطين، لأنها الجسر البري الذي يصل أفريقيا وآسيا في شبه برزخ بين بحرين. فهذا الجسر البري كان طريق مصر باستمرار إلي المشرق حيث تعيش بقية أمتها العربية، وكان علي مر العصور - مدخلها ومخرجها - أي بابها الحضاري والأمني والاقتصادي.
والدليل أن هذا المحور يكاد يكون الصانع الأكبر للتاريخ المصري منذ أقدم العصور:
* منه جاءتها جيوش الغزاة، وعليه وفدت أسباب العِز، ومن صوبه جاءتها المسيحية والإسلام هداية ورشدا، وكذلك جاءتها اللغة العربية ومخزونها الثقافي - قديمًا - ومتجددًا!
وتاريخ مصر من «تحتمس الثالث» إلي «صلاح الدين» إلي «محمد علي» إلي «جمال عبد الناصر» - شاهد حاضر، وعبرة شهادته أن مصر لم تفعل في التاريخ، إلا عندما وعت أهمية طريق المشرق، ولعله من هنا أن الأعداء تربصوا لها بجيوشهم عليه، من الإغريق والرومان، إلي الإنجليز وإسرائيل.
فقد أرادوا سد الأبواب عليها داخل أفريقيا.
وأكاد أزعم - يا سيادة الرئيس - أننا عرضنا قضية فلسطين خطأ علي الشعب المصري، حين صورناها له وكأنها تضامن مع شعب شقيق، فتلك ليست القضية الحقيقية، وإنما كانت القضية الحقيقية وصميم الموضوع هو الأمن المصري.
أقول عادة لكل من يناقشونني في هذا الموضوع:
- ارجعوا من فضلكم إلي مراسلات «روتشيلد» مع اللورد «بالمرستون» سنة 1840.
كانت دول الغرب قد فرغت من ضرب «محمد علي»، وفرضت عليه تلك المعاهدة المشئومة سنة 1840 التي فتحت أبواب مصر للاستيراد، وفرضت علي مصر إغلاق مصانعها وتحديد إنتاجها كمًا ونوعًا، وتقليص جيشها وسلاحه، وحصرت تأثيرها داخل حدودها، سلطنة بالإرث لأسرة «محمد علي» طالما هي «نائمة» وراء هذه الحدود - وكان ذلك بمثابة تمهيد لاغتصاب العالم العربي بأسره، ونزعه من الإمبراطورية العثمانية التي كانت رجل أوروبا المريض.
كان «بالمرستون» رئيسا لوزارء بريطانيا، وكانت بريطانيا هي القوة الأعظم ذلك العصر، وكان «روتشيلد» هو كبير أغنياء اليهود الراغبين في فتح أبواب هجرتهم إلي «الأرض الموعودة»!
ولم يجد «روتشيلد» ما يغري به «بالمرستون» علي مساعدة هجرة اليهود إلي فلسطين غير قوله في خطاب بتاريخ 18 أغسطس 1841 - بما نصه:
«إن مصر وحدها تستطيع أن تقوم بدور مؤثر في توحيد العرب بعد أن تسقط الإمبراطورية العثمانية، ولهذا فإنه يتحتم حجز هذا البلد (مصر) في موقعه وعدم السماح بخروجه إلي المشرق، وإذا استطاع اليهود إنشاء مستعمرات كافية وقوية في فلسطين، فإن هذه المستعمرات تستطيع أن تقوم بمهمة حجز مصر في أفريقيا، وهذا يعطي للقوي الأوروبية يدًا طليقة في المشرق العربي».
بعد ذلك بقرن تقريبًا، أعاد «دافيد بن جوريون» - المؤسس الفعلي لإسرائيل - صياغة مطلب عزل مصر في يومياته كاتبًا ما نصه:
«إن مصر وحدها هي التي يحسب لها حساب في المنطقة، فهي التي تقدر إذا واتتها الظروف الملائمة علي توحيد العرب، لكن مصر أشبه ما تكون بزجاجة، وعنق الزجاجة سيناء، وإذا قامت إسرائيل في فلسطين، فإن إسرائيل سوف تقوم بدور «الغطاء» الذي يمكن كبسه في عنق الزجاجة، فيحكم إغلاقة وختمه ويحبس الخطر داخل قمقم لا يخرج منه».
والواقع أن سياسة الاستعمار الغربي كانت حبس مصر في أفريقيا كلما أمكن.
ثم ورثت إسرائيل هذه السياسة باعتبارها ابنًا شرعيا، أو - ربما - غير شرعي لهذا الاستعمار الغربي.
وهكذا فإن المحور الشمالي - الجسر البري بين أفريقيا وآسيا - وشرقي البحر الأبيض - أصبح المحور الأساسي لأمن مصر، فهو المحور الحي والساخن والقابل للاشتعال، كان كذلك منذ الأزل وسوف يظل كذلك إلي المستقبل الذي يمكن حسابه!
................
إن متغيرات الاستراتيچية الدولية أضافت كثيرًا إلي أهمية هذا المحور - الشرقي - بالنسبة للأمن المصري.
فحين انتقلت البؤرة الساخنة في الاستراتيچية العالمية من قناة السويس إلي الخليج - وحين زاد اعتماد الاقتصاد العالمي علي بترول العرب وأموالهم - وحين تعاظم دور القوة البحرية والطيران وأسلحة الصواريخ - فقد أصبح تواجد مصر في المشرق اليوم أهم مما كان في أي وقت سبق.
ومن المفارقات - يا سيادة الرئيس - أن تلك كانت اللحظة التي اختارها صانع القرار المصري لخروج مصر من العالم العربي وانسحابها من الصراع علي مستقبله - بدعوي السلام ووهم الرخاء - (ولعله كان قصدًا من بعض الأطراف وخطأ من بعضهم الآخر!).
وكذلك وصلنا إلي منزلقين - كلاهما أخطر من الثاني.
* صلح منفرد مع إسرائيل (يترك مصر معزولة في أفريقيا).
* ووهم يمَنِّي نفسه والناس بما سُمي في ذلك الوقت بـ «مشروع مارشال» لمصر، (والمدهش أنه كان هناك مشروع مارشال عربي لمصر، ولم يكن هناك مشروع مارشال أمريكي - لكن البعض تمسك بالوهم وأغفل الحق عن عمد!).
إن ذلك كله، والنتائج التي ترتبت عليه، لم يؤد فقط إلي عزلة مصر عن العالم العربي، وإنما إلي تهاوي النظام العربي، وكانت تلك كارثة استراتيچية فادحة.
* * *
سيادة الرئيس
إن المنطقة التي نعيش فيها كان يتنازعها - بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية - تصوُّران لترتيب المستقبل، يتعارض كل منهما مع الآخر:
1- كانت الولايات المتحدة الأمريكية (وريثة الإمبراطوريات السابقة) تتصوَّر نظاما سياسيا وعسكريا يضم كل دول الشرق الأوسط، علي قاعدة الجغرافيا وحدها، ويوجه اهتمام دولها إلي مصر خطر واحد هو خطر الاتحاد السوفيتي. وكان منطقيا في حالة نظام شرق أوسطي - بهذا المعني الواسع - أن يشمل دولا مثل تركيا وباكستان وإيران - ومعها أو بعدها بفاصل قصير تدعي إسرائيل إلي مكان لها محفوظ، ودور فيه مقرر.
إن مصر رفضت هذا النظام منذ البداية، ورفضته من قبل الثورة حين قدم إليها، (وكان الدكتور «محمد صلاح الدين» وزير الخارجية في آخر وزارات حزب الوفد). وكان تقديمه لمصر في ذلك الوقت بمنطق أنه منظمة حيوية لملء الفجوة الدفاعية ما بين حلف الأطلنطي من ناحية، وحلف جنوب شرقي آسيا من ناحية أخري. ثم عادت مصر ورفضت نفس المشروع بعد الثورة، حين قدم إليها تحت نفس الاسم، واضطر أصحابه حينئذ إلي إقامته بغير مصر، وأصبح اسمه «حلف بغداد»، وكان قيامه سنة 1955 وكان سقوطه سنة 1958.
2- وفي مقابل نظام الشرق الأوسط فإن مصر الثورة طرحت تصورًا آخر هو «النظام العربي».
نظام يقوم علي جامعة الدول العربية ويرسخ أهدافه، يقوم علي الجامع القومي للأمة العربية ومصلحتها الواحدة وأمنها الواحد وإرادتها المستقلة.
................
وفي الحقيقة فإن مقدمات النظام العربي ظهرت من قبل الثورة، لأن فاتحته كانت إنشاء جامعة الدول العربية بتشجيع من الملك «فاروق» وبتوقيع من «مصطفي النحاس».
................
كان رأي مصر بعد الثورة أن الأساس الشرق أوسطي تعبير عن الجغرافيا وحدها، وذلك يطرح داخل النظام تناقضات طبيعية وتاريخية، لأن الهوية ليست واحدة والمصالح ليست واحدة والأمن ليس واحدا والإرادة ليست واحدة «فإن إيران مثلا لها رؤاها، وكذلك تركيا وباكستان، فضلا عن أن «إسرائيل عدو».
وانضمت سوريا والسعودية إلي مصر تلك الأيام - وموقفهم أن هناك أساسا واقعيا، طبيعيا وتاريخيا، لقيام نظام عربي تكون نظريته في الأمن مواجهة أي خطر يتهدد أي بقعة من الأرض العربية، وبرغم كل المشاكل التي اعترضت سبيل هذا النظام - من الخارج ومن الداخل - فقد كانت لديه فرصة حقيقية.
وكانت مصر - بكل المواصفات والدواعي - درع هذا النظام وسيفه.
وكانت معاركها الكبري - من السويس سنة 1956 إلي أكتوبر 1973 - دفاعا عنه، وعدا مشروعا وإمكانية تحقيق.
وفي اللحظة التي تجسد فيها الوعد - بعد حرب 1973، وأوشك النظام علي الانتقال من مرحلة التصور إلي مقدرة الخلق - خرجت مصر من إطاره.
إن حرب أكتوبر أنجزت ما أنجزت - يا سيادة الرئيس - لأن مشروع النظام العربي كله شارك فيها علي أكثر من جبهة، وبأكثر من جيش وبأكثر من سلاح عربي «من قوة النار إلي طاقة النفط».
وكانت تلك فرصة العمر، لكن الذين كان بيدهم القرار اختاروا طريقا آخر.
وكان ذلك غريبا، والأغرب منه أن مصر في ذلك الوقت بدت وكأنها تقبل بما رفضته سابقا قبل الثورة وبعدها، لأنها رأت فيه نوعا من التبعية لا تريده ولا تقبله!
ثم ظهر وكأن مصر تحاول بعث الحياة في ذلك النظام الشرق أوسطي، بعلاقة خاصة قامت بينها وبين إيران «الشاه»، ثم بعلاقة أخري كان يجري الترتيب لها منذ سنة 1974 مع إسرائيل «رابين» ثم مع إسرائيل «بيجين»!
(عفوا - سيادة الرئيس - إذ أنسب ذلك كله إلي مصر، ولم يكن لمصر فيه ذنب، بل إن مصر كانت فيه ضحية).
* * *
سيادة الرئيس
إن خروج مصر من النظام العربي - ابتداءً من سنة 1974 - أنهي حقبة من تاريخ المنطقة - ضمن سلسلة من الحقب توالت عليها منذ سقطت الخلافة العثمانية، التي كانت آخر نظام شرعي قبلت به الأمة العربية، والواقع أنه من بعد نهاية الحرب العالمية الأولي - أي بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية - توالت علي المنطقة حقب:
1ـ كانت هناك «الحقبة الاستعمارية» - وقد عاشت فترة ما بين الحربين العالميتين (الأولي والثانية) بسيطرة بريطانيا وفرنسا.
2ـ كانت هناك لفترة قصيرة من الزمن «الحقبة الوطنية» - وقد ظهرت فيها الدول العربية (وغير العربية) التي حصلت حديثا علي استقلالها في المنطقة، متصورة أن كلا منها يستطيع أن يعيش وحده - بمفرده - وسط العالم.
3ـ جاءت بعد ذلك «الحقبة القومية» وكانت مقدمتها ميثاق جامعة الدول العربية - باتفاق بين الملك «فاروق» ورئيس وزرائه وقتها «مصطفي النحاس» - وكانت تلك نقطة بداية حاولت استكمال طريقها حين خرجت مصر بعد ثورة يوليو إلي المشرق داعية وساعية إلي وحدة إرادة الأمة في إطار نظام عربي فاعل. وقد امتدت هذه الفترة - مرة أخري - من قبل حرب السويس سنة 1956 إلي ما بعد حرب أكتوبر 1973.
وبالطبع فإن هذه الحقبة القومية تعثرت سنة 1974 حين باشرت مصر انسحابها من النظام العربي.
4ـ وبانسحاب مصر من النظام العربي - بدأت حقبة جديدة هي «الحقبة السعودية» - وكانت تلك فترة تراجعت فيها - بطبائع الأحوال - أحلام الثورة، وتقدمت فيها أحلام الثروة، وبما أن السعودية كانت أغني الكل، فإنها أصبحت الدولة التي وقعت عليها مسؤولية حماية ما بقي من النظام العربي بعد انسحاب مصر من الميدان.
ولم تكن المسألة حساب الثروة بالأرقام - بل كان هناك أيضا ذلك الاعتقاد الذي ساد - بأنه إذا كان هناك طرف يستطيع الضغط علي الولايات المتحدة لكي تضغط بدورها علي إسرائيل - فإن هذا الطرف هو السعودية بما تملكه من نفط إلي جانب ما تملكه من نقد.
وأخشي أن أقول - يا سيادة الرئيس - إن «الحقبة السعودية» انتهت في بيروت أخيرا، فلقد ثبت أن قصاري ما قدرت عليه السعودية - بالنفط والنقد - إزاء الولايات المتحدة هو الترتيب لإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من حصار بيروت، ولا شيء أكثر من ذلك.
5ـ وبانتهاء «الحقبة السعودية» في بيروت - فإن المنطقة أصبح عليها أن تعد نفسها لحقبة جديدة، أخشي أنها - مع الأسف - «الحقبة الإسرائيلية».
وأمام عيوننا فإن الشرق الأوسط يشهد الآن محاولة إمبراطورية جديدة: إسرائيل، ومع التسليم بأن المحاولة محكوم عليها تاريخيا - أن المشروع في اللحظة الراهنة يقبل التعريف المتفق عليه للقوة الإمبراطورية وهو:
«دولة تملك قوة متفوقة، وتملك نزعة عدوانية لاستعمال هذه القوة في فرض هيمنتها علي آخرين، تحقيقا لمصالح رأتها وحددتها رغما عنهم جميعا».
كذلك فعلت كل قوة كبيرة وصغيرة علي مجري التاريخ، وكذلك عبرت مطالب الهيمنة عن نزعة العدوان - وشاهده ما جري - ومازال يجري في الضفة الغربية، وفي لبنان.
والحقيقة أنه مسرح عمليات واحد - عليه جبهتان!
* * *
سيادة الرئيس
أعلم أنكم متمسكون باتفاقيات «كامب ديفيد».
وأفهم - بأحكام الضرورة - أسبابكم، ومع أنني كنت ومازلت أري إمكانات أكثر اتساعا - فإن ذلك في جزء منه قد يكون اختلاف الحقائق بين صاحب المسؤولية وصاحب الرأي.
صاحب المسؤولية لا يملك غير أن يقف بقدميه علي الأرض التي يجدها تحته.
وصاحب الرأي له فرصة التحليق بجناحيه في الفضاء، «وليس في الفراغ»! وبصرف النظر عن أسباب ذلك الاختلاف، فإنني واحد من الذين يرون صلة مباشرة بين اتفاقيات «كامب ديفيد» وبين ما جري في العالم العربي وله - حتي وصل إلي مأساة - حصار أو احتلال بيروت ولو لأسابيع أو حتي لأيام:
1ـ منذ البداية كان ظاهرا لكل ذي عينين، أن مشروع الحكم الذاتي ليس فيه شيء حقيقي يمهد لحل القضية الفلسطينية.
كانت اتفاقيات «كامب ديفيد» صفقة تعيد لمصر درجة من السيادة علي سيناء بقيود وشروط، أولها خروج مصر من القضية الفلسطينية ومن العالم العربي كله - بلا قيد ولا شرط!
وحتي في وجود الرئيس «السادات» فإن محادثات الحكم الذاتي لم تصل إلي نتيجة، ولم يكن ممكنا أن تصل إلي نتيجة.
2ـ إن إسرائيل - بعد اتفاقيات «كامب ديفيد» - راحت بقسوة مخيفة تعيد ترتيب الأوضاع في الضفة الغربية وقطاع غزة علي نحو لا يمكن أن يكون له هدف غير التمهيد للضم وتحقيق وحدة «أرض إسرائيل» علي حد تعبيرهم، وأما سيناء فلم يكن لإسرائيل فيها سوي مطلب أمن، وقد حصلت فيه علي أكثر مما كانت تحلم به،
بل لعله كان يناسب إسرائيل أن تخرج من سيناء بعد أن تحقق لها ما أرادته من ضمانات الأمن، لأن استمرار احتلالها كفيل باستبقاء مصر داخل دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، وتلك دائرة تسعي إسرائيل لإخراج مصر منها، باعتبارها الطرف العربي الأقدر علي الحرب نظريا وعمليا إذا أتيحت له الظروف.
3ـ إن الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة تصدي لمحاولات إسرائيل، ولأكثر من سنتين كانت هناك ثورة مستمرة في الضفة والقطاع لم تهدأ نيرانها، وكان الوقود طابورا من الشهداء، رجالا ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، كلهم لم يخافوا بل واجهوا البطش الإسرائيلي بما وصلت إليه أيديهم من سلاح وعصي وحجارة. وكان العالم كله مأخوذا بهذا المشهد الإنساني المهيب، «من سوء الحظ أن الأمة العربية المعنية به - كانت مشغولة عن متابعته لأسباب مختلفة».
ولقد حاولت إسرائيل أن تجد ممثلين للشعب الفلسطيني تتحدث معهم، وتحل وتعقد بواسطتهم، لكن الشعب الفلسطيني كله راح يشير إلي بيروت، حيث كان ممثله الشرعي والوحيد: «منظمة التحرير الفلسطينية».
4ـ وهكذا جاء قرار إسرائيل بأن تذهب مباشرة - وبجيشها - إلي بيروت، وكان ذلك تفسيرها الحقيقي لمشروع الحكم الذاتي كما ورد في اتفاقيات «كامب ديفيد».
ولم يكن ذلك القرار مفاجئا - إلا لهؤلاء الذين لا يعرفون إسرائيل.
ولم يكن ذلك القرار مفاجئا أيضا - إلا لهؤلاء الذين لم يروا الشواهد حولهم تشير إلي مقدمات ظهور قوة إمبراطورية جديدة في الشرق الأوسط.
* * *
سيادة الرئيس
في هذه الأجواء المشحونة والمعبأة بالخطر، جاءت رئاستكم لمصر في أعقاب خريف من الغضب هبت عليها عواصفه وضربتها صواعقه.
وتطلعت الأمة العربية إلي القاهرة، واضعة يدها علي قلبها تتلمس كلمة تستطيع أن تستنتج منها أملا أو تشم ريحا تحمل نسماتها نفحة عطر.
* من ناحية كانت الأمة متشوقة لعودة مصر، لأنها رأت رأي العين عواقب غيابها أو تغييبها بمعني أدق.
* ومن ناحية أخري، فإن الشعور العام في مصر راح يطرد ويطارد بقايا خرافات حاولوا إقحامها علي خياله وعلي فكره.
ـ خرافات من نوع أن مصر ليست عربية (إذا لم تكن عربية فماذا هي؟».
ـ وخرافات من نوع أن الإسرائيلي عدو عاقل، وأن العربي صديق جاهل (ومؤدي المثل مفهوم!).
ـ وخرافات من نوع «مصر أولاً» (وكان غريبا أن يقال مثل ذلك لشعب عرف أكثر من غيره أن من يقول «أنا أولا» مثل من يقول «أنا وحدي»، وذلك في عصر لم يعد فيه بقاء لأحد وحده مهما كانت قوته (لم تقلها الولايات المتحدة ولم يقلها الاتحاد السوفيتي) - فضلا أن تكون خرافة «أنا وحدي» تحمل في طياتها تجاهلا لكل عناصر هوية وحياة وطن، التراث الحي لأمة وفيه المعتقد واللغة، فضلا عن الجغرافيا والتاريخ).
ـ وخرافات من نوع أن مصر تعزل غيرها ولا يعزلها غيرها (بنسيان أنه إذا انعزل طرف فإن العزل يصبح الحقيقة الوحيدة، سواء كان هذا الطرف هو الذي عزل نفسه بتصرفه، أو كان الآخرون هم الذين عزلوه لأسبابهم).
ـ وخرافات من نوع أن مصر زعيمة العالم العربي، وأنه لابد عائد إليها مهما طال الزمن (ناسين أن الزعامة تختلف عن الرئاسة، وفي حين أن الرئاسة فرض قانون، فإن الزعامة حرية اختيار يفرضه المثال والتجربة، كما أن الزعامة لا تتحقق بادعاء طرف لنفسه، وإنما تتحقق بالقبول الطوعي له من أطراف أخري).
* * *
ولقد دخلتم إلي القصر الجمهوري - يا سيادة الرئيس - والأمة متشوقة من ناحية، والرأي العام في مصر يطرد ويطارد بقايا الخرافات من ناحية أخري.
ولم أكن متفائلاً بفرصة عودة مصرية سريعة إلي الجامعة العربية، بل أكاد أقول لم أكن متحمسا حتي إذا كانت هناك فرصة لعودة سريعة.
كنت مقتنعا - أو قانعا - بالإشارات والاتجاهات. وكنت من أنصار استمرارها تأكيدا لمعان ومبادئ، وإعادة توثيق لعهود والتزامات.
ـ علي سبيل المثال، كنت مقتنعا وقانعا بقرار كذلك الذي أصدرتموه - يا سيادة الرئيس - بإنهاء لعبة جامعة الشعوب العربية والإسلامية «أية شعوب؟ - إذا كانت الشعوب هي الرافض الأساسي للصلح المنفرد مع إسرائيل، في حين أن معظم الحكام لم يكن لديهم مانع من إغماض العيون!».
ـ وعلي سبيل المثال، فلقد تمنيت لو أنكم أضفتم - يا سيادة الرئيس - إلي قراركم الكبير ملحقا يسمح للأمانة العامة للجامعة العربية في تونس أن تستعيد صلتها بملفاتها في القاهرة لكي يقوم تواصل بين المقر المؤقت والمقر الدائم لجامعة الدول العربية.
أكثر من ذلك - في هذ الوقت - لم أكن أريد إجراءات أخري علي طريق العودة.
لقد كان هناك في رأيي طريقان للعودة:
طريق آلي - وطريق مبدئي ومستقبلي.
* كان الطريق الآلي هو العودة إلي ما كان، في ظروف غير ملائمة وإطار لم يعد هو الآخر ملائما، لم يكن علي هذا الطريق غير مقعد في جامعة الدول العربية، لأن الظروف الراهنة والمناخ السائد في أجواء العمل العربي المشترك - لا تسمح جميعها بما هو أكثر.
وأما الطريق المبدئي المستقبلي فقد يفتح صفحة جديدة، مع ملاحظة أن فتح هذه الصفحة الجديدة يحتاج إلي فكر مختلف، وليس تكرار تعبيرات مستهلكة، «وتلك مسألة أخري علي أي حال سوف يأتي دورها».
الشرق الأوسط يشهد – الان- محاولة امبراطورية جديدة هى إسرائيل
22/1/2008
[ جمال عبد الناصر مع الزعماء العرب في احد اجتماعات القمة]
جمال عبد الناصر مع الزعماء العرب في احد اجتماعات القمة
لقد تغيرت أشياء كثيرة - يا سيادة الرئيس - منذ شردت سياسة الصلح المنفرد مع إسرائيل إلي تيه ليست له خرائط، ومن وقتها سارت قوافل كثيرة في دروب الصحراء، وفاض نفط غزير من رمالها، واختلفت صورة العالم العربي عما كانت عليه سنة 1974 اختلافا شاسعا، وبعض ما حدث - لابد أن تتحمل مصر بأمانة مسؤوليته، وبعضه الآخر - ليس من الأمانة تحميل مصر به.
لكي نعرف إلي أي مدي تغيرت الصورة - يا سيادة الرئيس - فإن ما جري في لبنان يكفينا، لا أتكلم عن الغزو ولا عن المذابح فقط، ولكن أتحدث عن الصورة العامة كلها، وهي تدعونا بإلحاح إلي دراسة بعض ملامحها:
* في ربيع هذه السنة - 1982 - كان واضحاً أن إسرائيل مصممة علي مواصلة تنفيذ ما تبقي من اتفاقيات كامب دافيد، وبعد الفراغ من الجانب المصري من هذه الاتفاقيات، وإزاء الثورة المشتعلة في الضفة والقطاع - فإن لبنان سوف يكون الهدف.
ولم يكن هناك لغز في الأمر ولا سر، فالنوايا معلنة، وسياق الحوادث كفيل بأن يقود إليها، بصرف النظر عن النوايا معلنة أو مضمرة.
ـ فقد كان الجيش الإسرائيلي يحتشد أمام جنوب لبنان.
ـ وكانت الثورة الفلسطينية تنادي ليل نهار من يريد أن يسمع نداءها.
ـ وكان تحالف القوات اللبنانية قد استكمل وسائله «منذ سنة 1974 علي الأقل بدأت القوات اللبنانية تتصل بإسرائيل، وبعد الحرب الأهلية في لبنان - 1975 - تحول الاتصال إلي اتفاق وارتباط».
منذ ذلك الوقت - يا سيادة الرئيس - وإلي بداية هذه السنة، كانت إسرائيل قد صرفت - بحسب أوثق المصادر - ما مقداره 350 مليون دولار في ست سنوات، لإعداد وتدريب وتسليح القوات اللبنانية، وكانت هذه القوات خليطاً من عناصر متعددة.
ـ ميليشيات الكتائب (تحت إمرة «بشير الجميل» الذي أصبح رجل إسرائيل في بيروت).
ـ ميليشيات «كميل شمعون» (الذي كان أول من بدأ الاتصال بإسرائيل).
ـ ميليشيات مستقلة (خاضعة مباشرة لإمرة «الموساد» - المخابرات الإسرائيلية).
يضاف إلي هذه الميليشيات بالطبع: قوات «سعد حداد».
ولم يكن هناك من لا يعرف في بيروت بوقائع ما يحدث، ولم يكن هناك من يستطيع أن يكابر فيه، ولا حتي الشيخ «بشير الجميل» الأب ومؤسس الكتائب.
وأتذكر أنني قابلته في مقر الكتائب ذات يوم من شهر فبراير 1975، وألمحت إلي صلات حزبه مع إسرائيل من بعيد، وكان رده بوضوح لا يحتمل اللبس:
«إنني علي استعداد لأن أتعاون مع الشيطان من أجل لبنان».
كان هناك كثيرون - في المنطقة كلها وليس في لبنان وحده - علي استعداد للتعاون مع الشيطان، وكل منهم لديه من أجل نفسه - وليس من أجل الأوطان - ما يتعاون فيه مع الشيطان!
* وحين بدأت عملية غزو جنوب لبنان، تأخر من كان بيدهم الحل والعقد وقتاً طويلاً قبل أن يتحركوا.
في البداية صدقوا ما كانت تقوله إسرائيل عن أن هدفها تأمين شريط حدودي بعرض 25 ميلاً في جنوب لبنان، وبدا كما لو أن ذلك لا يضايقهم كثيراً.
وتكرر علي بعض الألسنة وعلي أسنة بعض الأقلام أن كل شر يحمل خيراً في باطنه، وهكذا فإن العملية الإسرائيلية سوف تؤدي إلي تحجيم الثورة الفلسطينية التي ذهبت بعيداً في ممارسة استقلالها من وجهة نظرهم، وأصبحت عنصراً ضاغطاً علي كل الأنظمة، وقد زاد اقترابها من الاتحاد السوفيتي، ثم انضمت صراحة إلي جبهة الرفض، واشتركت في مؤتمرها الأخير في الجزائر.
أضيف إلي ذلك بنفس الألسنة والأقلام أن العملية الإسرائيلية قد تؤدي إلي تأديب سوريا، من حيث إنها سوف تكشف عجز النظام السوري عند المواجهة مع إسرائيل، ويتبدي الفارق الكبير بين ما يسمح لنفسه بتكرار إعلانه، وما يتحمل بنفسه أن يتصرف به!
وبدا لهؤلاء أن هذا كله مما لا بأس به، خصوصاً أن العراق انشغل بحربه مع إيران، وكان موقف «هؤلاء» من تلك الحرب في البداية يلخصه بدقة ما سمعته بنفسي من «أحد الأقطاب الملكيين»، وكنت أتحدث إليه ذات يوم عن تطورات القتال بين العراق وإيران، وكان تعليقه بالحرف شطرة من بيت شعر تقول «وربما تموت الأفاعي من سموم العقارب»!
* وعندما تطورت العملية الإسرائيلية فتجاوزت قواتها احتلال الخمسة والعشرين ميلاً، واقتربت من العاصمة اللبنانية، وحاصرت بيروت الغربية وفيها القوة الأساسية للثورة الفلسطينية، واحتدمت المعارك، وخرجت صورها تنقل إلي الدنيا مشاهد البطولة والاستشهاد، وجرائم الغزو وفظائعه - فإن الرأي العام العربي كله انتفض ليسأل، وكان يمكن له بعد السؤال أن يحاسب وأن يعاقب.
لكن الذين كان بيدهم الحل والعقد في العالم العربي تلك الأوقات سارعوا إلي الحركة.
ـ كان أول ما فعلوه هو أن الصور والأفلام القادمة من بيروت أخضعت لرقابة صارمة، بحيث لا تحول موادها إلي شحنات متفجرة بعيداً عن بيروت (وهكذا فإن الرأي العام العربي - معظمه علي الأقل - جري عزله عن المشاهد الحقيقية لما جري ويجري، حتي لا تستثار أو تثور مشاعره بما تصعب السيطرة عليه، وكان كثيرون - ومازالوا - يتعجبون لأن الرأي العام العالمي انفعل بمأساة لبنان أكثر مما انفعل بها الرأي العام العربي، وكان السبب في الواقع أن الصورة الكاملة لم تظهر أمام الناس إلا للقلة القادرة علي المتابعة عن طريق الوسائل الخارجية، بينما الجموع الغفيرة ظلت معزولة عنها بالكامل).
ـ ثم كانت الخطوة الثانية فيما فعلوه هي الهرولة إلي الولايات المتحدة.
ولم يكن لدي واحد من «هؤلاء» - أو من غيرهم - شك في أن الولايات المتحدة أعطت الضوء الأخضر للدخول الإسرائيلي العسكري إلي لبنان، لكن «مقولة» الضغط علي الولايات المتحدة كانت الورقة الوحيدة الباقية في أيديهم - علي الأقل «ببيع الوهم» للناس.
وفي حقيقة الأمر فإنه لم يكن هناك ضغط مؤثر لأن واقع الحال كان يكشف أن حاجة الذين يضغطون - إلي الولايات المتحدة، أشد من حاجة الولايات المتحدة إلي هؤلاء الذين يضغطون، وهكذا فإن الضغط لم يلبث أن تحول إلي رجاء، ولم يلبث الرجاء أن نزل إلي ما دون الاستعطاف وطلب الرحمة.
ـ أسوأ من ذلك، فقد بدأت إسرائيل تضغط علي الولايات المتحدة، لكي تضغط بدورها علي أصدقائها في المنطقة، لكي يضغط هؤلاء الأصدقاء بدورهم علي الثورة الفلسطينية، لكي تخرج من لبنان، مقابل وعد بأنها إذا خرجت - مطيعة ومؤدبة - من بيروت، فإن الولايات المتحدة سوف تقبل أن تتحدث معها!
حتي هذا الوعد لم يكن صادقاً، أو لم يكن صحيحاً.
ولم يكن ذلك كل ما حدث في لبنان.
بعد الغزو وبعد المذابح، أصبحت بيروت أكبر مسارح اللامعقول - علي الطبيعة وفي الواقع، وليس بالفن أو التمثيل.
تصوروا - يا سيادة الرئيس - عاصمة عربية احتلتها قوات الغزو الإسرائيلي، ومع ذلك كان لها رئيس جمهورية يمارس ما يسميه عمله الشرعي، بينما ترابط أمام قصره قوات مدرعة من دبابات العدو، وكانت المشاورات تجري في ذلك القصر،
بينما سيارات المشاركين فيها تتقابل وتتداخل مع دوريات الاحتلال، وكان هناك مجلس نواب يجتمع وينتخب رئيساً جديداً - بينما الجنرال «شارون» غير بعيد عن الثكنة التي تمارس فيها العملية الانتخابية، بل وحدث أن بعض الذين تلاقوا في الثكنة لوضع أسس الشرعية الجديدة في لبنان، جري خطفهم بقوة السلاح لاستكمال النصاب القانوني - ! - وأمام فوهات المسدسات والمدافع الرشاشة جري وضع البطاقات في سلة من القش!
هل يمكن أن يحلم مسرح اللامعقول بأكثر من ذلك؟
لا يتوقف اللامعقول عند هذا الحد، لأن الرئيس المنتخب - أو المفروض من إسرائيل في ذلك الوقت - «بشير الجميل» اضطر إلي إعادة حساباته، إزاء ضغوط تتصل بمصالحه أكثر من اتصالها بواجباته:
ـ إذا أراد أن يكون رئيساً لكل لبنان، فعليه أن يأخذ في حسابه وزن المسلمين فيه.
ـ إذا أراد أن يتأكد من بقاء شرق وشمال لبنان - سهل البقاع وشماله الغربي إلي طرابلس - فإنه مطالب بأن يجد صيغة التفاهم من نوع ما مع سوريا، لأن سوريا بالنسبة للبنان ليست مجرد جوار، وإنما سوريا ولبنان قضية متداخلة ومتشابكة في الأرض والأمن والمصالح، بل والعائلات، وهكذا فإن العنصر السوري أساسي في المعادلة اللبنانية مهما قال القائلون!
ـ إذا أراد أن يضمن إعادة تعمير لبنان، فإن المصدر الوحيد لتمويل التعمير يصعب أن يجيء من غير دول البترول العربية، وهذه لا تستطيع قبوله رئيساً يمثل إرادة إسرائيل الصريحة، ثم إن تجاهل المسلمين في لبنان - ليس أفضل أسلوب يقدمه إلي دول البترول.
ـ كانت هناك أيضاً بالنسبة له مشكلة «سعد حداد» الذي تريد إسرائيل مكافأته علي خدماته، بإيجاد دور له في لبنان الجديد، الذي تقوم هي بإعادة ترتيب أموره، بعد أن أصبحت قوة إمبراطورية مسيطرة عليه (وعلي غيره)!. وقبول «سعد حداد» والتعامل معه قضية بالنسبة لبشير الجميل، وإلي جانب المحاذير الوطنية في هذه القضية، فقد كان مؤكداً أنها لن تكون مقبولة من أمراء الجبل، لأنها تفتح الباب لزعماء ميليشيات قادمة من السفوح!
ولقد تشجع «بشير الجميل» بالدور الأمريكي الذي نشط بشدة في لبنان، حتي أصبح هذا الدور وسيطاً بين القوة الإمبراطورية الجديدة وبين بقية المذعورين منه حول لبنان، والذين لم تعد لهم حماية إلا تحت المظلة الأمريكية.
وعندها تصور «بشير الجميل» أنه يستطيع نقل ولائه من إسرائيل إلي الولايات المتحدة، وكانت الولايات المتحدة علي استعداد لفهم مصاعبه.
كانت تستطيع أن تفهم:
- لماذا مثلاً لم يقم بدوره المرسوم في خطة الغزو الإسرائيلي، وهي خطة كانت تضع عليه عملية اقتحام بيروت الغربية حتي لا تفقد فيها إسرائيل من الخسائر البشرية أكثر مما تطيق احتماله (وكانت إسرائيل عاتبة عليه لهذا السبب في ذلك الوقت).
- لماذا مثلاً لا يستطيع أن يتعهد علناً بتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، وكان قد وعد بذلك، واكتشف بعد انتخابه أنه لا يستطيع وراح يماطل ويتلمس المعاذير (وفيها موقفه من المسلمين في لبنان - والعامل السوري في المعادلة اللبنانية - وحاجة لبنان إلي أموال البترول للتعمير).
كانت الولايات المتحدة في ذلك الوقت صاحبة اقتراح عقد معاهدة عدم اعتداء - وليس اتفاقية سلام - بين إسرائيل ولبنان، وتقديرها أن مثل هذه المعاهدة يمكن بيعها للعرب علي أساس أنها لا تقيد لبنان بشيء (كما حدث مع مصر)، لأن «بشير الجميل» - ليس اليوم ولا غداً أو بعد غد - في موقف يسمح له بالهجوم علي إسرائيل، وإنما العكس، لأن هذه المعاهدة تعطي للبنان شيئاً، في حين أن لبنان لا يعطي بها شيئاً يؤثر في موازين الصراع!
ولم يتوقف مسرح اللامعقول.
كان «مناحم بيجين» يري أن «بشير الجميل» يماطل معه ويسوّف، وأن الأحلام تراوده وتداعبه بنقل ولائه من إسرائيل إلي الولايات المتحدة.
وبعث إليه «بيجين» يهنئه بانتخابه، ولم يرد «بشير الجميل» علي التهنئة.
ودعاه «شارون» ورئيس المخابرات الإسرائيلية إلي لقائهما في قريته بكفيا، وطلب «بشير» تأجيل الاجتماع.
وتصرف «بيجين» بأسلوبه، وبعث يستدعيه بحزم إلي «نهاريا»، حيث كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يقضي إجازة، وحملت طلب الاستدعاء قوة خاصة من الجيش والموساد. وكان علي «بشير الجميل» أن يركب الهليكوبتر إلي «نهاريا» برضاه، أو يحمَل إليها بغير رضاه، وركب، وذهب إلي جناح «بيجين» في فندق «نهاريا».
وأنقل هنا - يا سيادة الرئيس - رواية شاهد حضر هذا الاجتماع من مستشاري «بشير الجميل» وهو مستشار أمريكي:
«دخلنا جناح «بيجين» وكان هناك وزير الدفاع «شارون» وبعض مساعدي رئيس الوزراء.
وراح «بيجين» يتكلم في الأوضاع والتطورات، و«بشير الجميل» في موقف الدفاع عن النفس.
وفجأة طلب «بيجين» خروج الآخرين جميعاً من الغرفة وأقفل الباب عليه وعلي «بشير الجميل» وحدهما، وبعد 45 دقيقة فتح الباب وخرج «بشير الجميل»، ولاحظنا جميعاً أنه ممتقع الوجه.
وعادت بنا الهليكوبتر إلي بيروت، وفي بيروت أخرج «بشير الجميل» ورقة من جيبه، قال إن «بيجين» سلمها له، كان فيها نص مشروع معاهدة سلام، ثم قال لنا «بشير»:
- إن «بيجين» سلمني هذا المشروع، وأضاف قائلاً لي: «إنك سوف تتولي رئاسة الجمهورية رسمياً يوم 23 سبتمبر، وقبل نهاية ذلك الشهر - أي في ظرف أسبوع واحد - يتحتم أن يصلني توقيعك علي هذا الاتفاق».
وسكت «بشير الجميل» ثم استطرد:
- لا أعرف ماذا أفعل؟ - إذا لم أنفذ، فلن أكون مطمئناً علي حياتي».
الغريب - يا سيادة الرئيس - أن «بشير الجميل» أطلع أمريكيين رسميين علي كل ما حدث، وبعث لبعض العواصم العربية بطرف منه، وتصور كثيرون أنه يبالغ.
لكن الإسرائيليين عرفوا برسائله.
وتفجّر بيت الكتائب بعد أيام، وسقطت أنقاضه فوق جثة «بشير الجميل»، تعامل مع الشيطان (وفق نظرية والده)، وكان عليه أن يدفع حتي النهاية للشيطان، ودفع، ولم تكن إسرائيل هي التي نفذت العملية بنفسها، فهي أذكي من ذلك وأخبث، وإنما كان التنفيذ عن طريق بعض فصائل القوات اللبنانية المتعاملة مباشرة مع إسرائيل دون وساطة
أي مشيخات سياسية (هناك من هؤلاء ثلاثة آلاف تعاملهم مع المخابرات الإسرائيلية رأساً) - ومَنْ غير هؤلاء كان يستطيع أن يصل إلي مقر الكتائب؟، ومَنْ غيرهم كان يستطيع أن يعرف أن «بشير الجميل» سوف يكون فيه تلك اللحظة؟ ومَنْ غيرهم كان يملك الوقت والأدوات اللازمة لتنفيذ العملية بهذه الدقة والكفاءة؟!
* * *
سيادة الرئيس
تحت هذه السماء الملبدة بالغيوم اجتمع مؤتمر القمة العربية في «فاس».
كان المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي -!!- يلمع كسياط البرق وسط أصداء هدير الرعد القادم من بيروت، وكان المشروع القومي العربي يتراجع علي الأفق ويغيب في السحب الداكنة!
وكان مهيناً أن العرب وقد تراجعوا حتي الخندق الأخير لم يعد بينهم وبين الغطرسة الإسرائيلية غير حاجز واحد لم يبق غيره، وهو حسن الظن في الولايات المتحدة.
ولقد نستطيع القول - بغير مبالغة وبغير تجنٍ - إن هذا المؤتمر في «فاس» كان قمة الملوك.
كان الملك «الحسن الثاني» علي رئاسته، وقد غير تقاليد مؤتمرات القمة العربية، وأخذ تقاليد قمم أخري حين حدد أن المؤتمر سوف يظل تحت «رئاستنا» للسنة القادمة حتي ينتقل إلي رئاسة الملك «فهد» الذي تقرر أن يستضيف المؤتمر القادم - سنة 1983 - في «الطائف».
بل إن الملك «الحسن» أزاح جانباً دور الأمين العام للجامعة العربية، وعين وزير خارجيته متحدثاً رسمياً باسم القمة، ثم وضع الملك «نقطة» علي «حروفه» - فقال في معرض مناقشة بينه وبين بعض الساسة من «العامة» الذين أتيح لهم حضور المؤتمر: «لقد كانت الأمور في أيديكم سنين طويلة، وعليكم الآن أن تتركوا لنا الفرصة لنعمل»، وبالطبع فإن صيغة الجمع هنا كانت هي بعينها صيغة الجمع الملكية «نحن...».
وعلي أي حال فقد كانت الأمور محسومة بحكم الأمر الواقع، فمادامت الأمة العربية قد أصبحت في الخندق الأخير، ومادام لم يعد بينها وبين الغطرسة الإمبراطورية لإسرائيل غير حاجز واحد هو الولايات المتحدة - إذن فإن كلام غير الملوك تطفل وتزيد.
ولقد أسمح لنفسي - يا سيادة الرئيس - وأرجو أن يكون حساب ذلك علي، لا شأن لكم ولا لمصر به - أن أعترض بكل أدب وبكل احترام علي مقولة «الحسن الثاني» بأن «الأمور كانت في أيديكم سنين طويلة، وعليكم الآن أن تتركوا لنا الفرصة لنعمل».
الحقيقة أن كل الأمور كانت في أيديهم منذ سنة 1974، وربما قبلها.
* كان الملوك هم الذين أقنعوا الرئيس «السادات» بأن الحل كله فى ىد أمرىكا، وأن أمرىكا لن تقترب منه طالما الاتحاد السوفىتى موجود فى المنطقة، وأول خروج السوفىت خروج سلاحهم.
وخرج السلاح السوفىتى من المنطقة، وأصبحت أكتوبر آخر الحروب، وأصبح خىار الحرب بىن العرب وبىن إسرائىل غىر وارد، فالسلاح السوفىتى وحده هو السلاح الذي استطاع به العرب أن يدافعوا عن أنفسهم، وباختفاء خيار الحرب المحتملة فقد اختفي خيار السلام الممكن، لأن السلام بدون خيار الحرب لا يكون سلاماً،
والمفاوضات - أي مفاوضات في الدنيا - مرهونة بموازين قوة، وما لم يكن في مقدور أي طرف من الأطراف أن يقول علي مائدة المفاوضات «هذا هو الحد الأدني لما أستطيع القبول به، وما لم أحصل عليه هنا فسوف أحاول ذلك بوسائل أخري» - فإن هذا الطرف عليه أن يتفاوض إلي الأبد، وبغير نتيجة، وإذن فإن خيار الحرب هو الضمان الوحيد لخيار السلام!
* ولكي نكون أمناء أيضاً، فلقد كان أحد أصحاب الجلالة - الملك «الحسن» بنفسه - هو الذي مهّد لأول مفاوضات مباشرة بغير شروط بين مصر وإسرائيل، وهو الذي نقل الرسائل الأولي بين رئيس الوزراء «إسحق رابين» والرئيس «السادات» سنة 1974، وهو الذي استضاف في قصره اجتماع «موشي ديان» ممثلاً لمناحم بيجين و«حسن التهامي» ممثلاً للرئيس «السادات» مضي إلي أبعد مما تصورناه أو كنا مستعدين لقبوله» - لأن مجرد الاجتماع أسقط سلاح الرفض العربي لإسرائيل.
(بعض الناس يقولون إن سلاح المقاطعة الكاملة لإسرائيل غير حضاري، وأنه إذا كانت إسرائيل حقيقة قائمة، فإن رفض الاعتراف بها جهل! - ولا يكلف هؤلاء أنفسهم عناء فهم موقف الولايات المتحدة مثلاً إلي رفض وجود الصين الشعبية أكثر من عشرين سنة تغيرت فيها موازين القوي العالمية، ثم كان بعد -
هذه العشرين سنة - وعلي ضوء مصالح متغيرة، أن الولايات المتحدة اعترفت بأن الصين موجودة - وكذلك لم يكلف هؤلاء أنفسهم عناء فهم دوافع إسرائيل إلي رفض الاعتراف بوجود شعب فلسطيني كانت الأرض كلها له، ولم يبق معه الآن إلا طلب الحق في تقرير مصيره!
أليس عجيباً أن إسرائيل رفعت حظرها أخيراً عن الموسيقي العظيم «شتراوس»، وكانت من قبل تقاطع أي حركة في موسيقاه، لأنه تولي منصباً في إدارة إحدي الفرق الكبري أثناء حكم النازي؟ - أليس عجيباً أن إسرائيل - وحتي اليوم - تفرض حظراً علي الموسيقي العظيم «فاجنر» لأن موسيقاه كانت بين مصادر الإلهام الجرماني لـ«أدولف هتلر»!!).
وإذا انتهي خيار الحرب. وإذا تم الاعتراف.
فما الذي يبقي للتفاوض؟
وأشهد - يا سيادة الرئيس - أنني كنت أشعر بالحرج في أعماقي - عندما كان وفد القمة العربية يتوجه إلي الولايات المتحدة ليعرض عليها مقررات القمة العربية محلاة بمشروع «ريجان»، مطعّمة بمشروع «فهد»، مضافاً إليها مشروع «بورقيبة».
خليط يستعصي علي المزج، وعلي الفهم!
وقد رفض «ريجان» قبل وصولهم أن يكون بين أعضاء وفد القمة - حين يستقبله - ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وقبلوا.
ثم كان اللقاء مع «ريجان»، وقد قال لهم فيه أكثر مما سمع، وكان ملخص قوله نفس ما تقول به إسرائيل تقريباً: «لا دولة فلسطينية، ولا اعتراف بمنظمة التحرير، ولا عودة إلي خطوط ما قبل 1967، ثم إنني لا أسمع منكم كلاماً أهتم به قبل أن تعترفوا جميعاً بإسرائيل، وقبل أن تجلسوا معها».
وخرجوا من عنده يتحدثون عن القانون، ويجاهدون بمواده، ناسين أنه علي مستوي الأفراد أو علي مستوي الأمم، فإن أي قانون لا يساوي الورق الذي كتب عليه إلا إذا كانت وراءه سلطة إجبار.
وسلطة الإجبار في القانون علي المستوي الفردي - قوة البوليس.
وسلطة الإجبار في القانون علي المستوي الدولي - قوة الجيوش.
وإلا فإن القانون - محلياً ودولياً - يبقي قصاصة ورق، مهما كانت النصوص عادلة وحكيمة، وكانت الألفاظ مهيبة وبليغة!
ومع ذلك، فمن منا - يا سيادة الرئيس - لا يتمني من صميم قلبه أن ينجح الملوك؟
أشهد - بأمانة - أن تعاطفي اليوم شديد مع واحد منهم، أشعر أن الظروف وضعته بين المطرقة والسندان، وهو الملك «حسين»، ذلك أن المطلوب منه صناعة المستحيل.
تطالبه الولايات المتحدة بأن يتحدث عن الفلسطينيين، وهو يعلم علم اليقين أن إسرائيل لن تتنازل لهم عن شيء.
ويطالبه بقية العرب - وبقية الملوك - بأن يتفاهم مع الفلسطينيين، وهو يعلم علم اليقين أنهم لا يملكون التنازل له عن شيء.
وهو واقف وسط الساحة، يحاول أن يقوم بدور يدرك سلفاً - بتجربته ويقينه - أنه مؤدٍ إلي أبواب مسدودة.
وهو علي أي حال يحاول ويحاول لعل وعسي، عارفاً في أعماقه أنه ليس هناك «لعل»، وليس هناك «عسي»!
* * *
سيادة الرئيس
ذلك كله خارج موضوعي علي أي حال، ما يعنيني بهذا الحديث الآن هو مصر، والحقيقة أنني لست أعرف ما الذي دعا إلي طرح مسألة عودة مصر إلي الجامعة العربية في هذه الظروف.
ولقد كان الرئيس «جعفر نميري» هو الذي تبرع وتطوع لطرح هذه المسألة علي القمة، ومع أن تأجيل مناقشتها من مستوي وزراء الخارجية إلي مستوي الملوك والرؤساء كان ينبغي أن يلفت نظر الوفد السوداني إلي أن الجو ليس ملائماً بعد، فإن الرئيس «نميري» - بحسن نية - فتح باب المناقشة فيه علي مستوي القمة.
ولم يكن الجو مهيأ لعدة أسباب، رغم أن بعض المشاركين في المؤتمر قالوا بصدق كلاماً لا يحتمل التأويل عن مصر، وكان بينهم بالتحديد الرئيس «صدام حسين» والملك «حسين» والسيد «ياسر عرفات».
لم يكن الجو مهيأ لعدة أسباب بينها:
1- أن ظروف مصر لم تسمح لها بعد بإعادة ترتيب أولوياتها، وحتي يحدث ذلك فليس هناك ما يبرر دعوتها إلي العودة غير مجرد حسن المقاصد ونبل العواطف، وتلك كلها ليست دعائم سياسية.
2- أن الفراغ الذي تركته مصر ملأه غيرها، أو حاول، وهذه طبيعة أي فراغ.
وبعض الذين ملأوا الفراغ - ربما بدون قصد منهم - لهم مخاوفهم من مصر، بحجمها بالنسبة لهم، ودورها قد يدفعهم إلي أبعد مما يريدون، ثم إن فكرها عندما ينطلق فيه الكثير من خواص النور والنار، وكلاهما لا بأس به إذا كان بعيداً، وكانت هي التي قررت بنفسها مسافة البعاد، ثم إنه لا بأس من بقاء مصر محاصرة، لأن خروجها من الحصار قد يأتي معه بآثار يصعب احتواؤها.
3- أن هناك أطرافاً تسلم بأن دور مصر لا يمكن إسقاطه من الحساب، لكن بعض هؤلاء الأطراف - وكلهم علي صلة بمصر - يفضلون علاقاتهم معها ثنائية، بحيث يحاول كل منهم أن يستثمرها من الباطن.
4- أن هناك بينهم من يتصور أن مصر تريد أن تعود لأنها محتاجة إلي المساعدات العربية، (ومن سوء الحظ أن بعضاً منا هنا شجع هذا التصوُّر).
5- أن عدداً من الأطراف يريد إبداء التشدد حيال مصر، لعل هذا التشدد أن يكون غطاء للتساهل مع غيرها.
والمصائب كلها تعلق علي «كامب دافيد»، حتي لا يلتفت أحد إلي ما جري قبلها ولا إلي ما جري بعدها، وكأن «كامب دافيد» وحدها مقطوعة من شجرة.
* * *
ولم ينفتح باب القمة أمام عودة مصر، وربما كان ذلك خيراً.
أقول في النهاية - يا سيادة الرئيس - إن مصر عائدة إلي أمتها العربية حتماً - فذلك قدرها.
وأقول أيضاً إن عودة مصر لن تكون - ولا يجب أن تكون - من باب القمة، فذلك أقل من قدرها.
أتجاسر وأقول أخيراً - يا سيادة الرئيس - إن مصر سوف تعود إلي أمتها العربية في نفس اللحظة التي تعود فيها مصر إلي نفسها، وإلي حقائق وثوابت الجغرافيا والتاريخ، آخذة في اعتبارها - بفهم وعلم - متغيرات الظروف الإقليمية والدولية، وحقائق ووسائل العصر.
وتلك - يا سيادة الرئيس - مسؤوليتكم تضعها المقادير أمامكم، ووراءكم فيها شعب بأكمله يعرف أن المسؤولية ليست مهمة أيام أو شهور أو حتي سنة كاملة.
لكم كل الاحترام من مواطن يؤمن في صميم قلبه بأنه ليس هناك مستقبل لمصر بدون أمة عربية، بمقدار ما أنه ليس هناك مستقبل للأمة العربية بدون مصر.