لكاتب الكبير محمد حسنين هيكل: «المقال الخامس» العالم الذي نعيش فيه وقواه - وصراعاته!
24/1/2008
كان هدف المقال الخامس مقاربة موازين القوي الدولية، خصوصاً في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وكانت تمر بمرحلة حرجة.
وكان توازن القوي الدولية بالنسبة لمصر مسألة حيوية، علي الأقل حتي تتمكن مرة أخري من إعادة حساباتها وتقديراتها لنظام دولي جديد، وتبين أمامها ملامح عصر مختلف لاحت بوادره فعلاً من خلال ضباب الحرب الباردة الذي زادت كثافته قبل لحظة النهاية لسببين:
أولهما: سياسة الرئيس الأمريكي «رونالد ريجان» التي لخصها في وصفه للاتحاد السوفيتي بأنه «إمبراطورية الشر»، ورفع درجة حمي سباق السلاح، بما سمي وقتها «حرب النجوم».
والثاني: نهاية عصر الجمود العظيم - عشرين سنة - في الاتحاد السوفيتي تحت سلطة «ليونيد بريجنيف» (واثنين من رفاقه علي القمة، هما رئيس وزرائه «كوسيجين» ورئيس الدولة «بادجورني»)، وكانت تلك القيادة عجوزاً تأخرت في الموت، دون أن تكون قادرة علي الحياة! ولاحت بارقة نبض بعد وفاة «بريجنيف» ومجيء «أندروبوف» بعده، وهو رجل لديه ملكات القيادة، وقد اعترف له بها كل الأطراف، كما امتلك وسائل في الكفاءة، وقد وفرتها له قيادته لجهاز المخابرات الشهير «K.G.B» سنوات طويلة، لكن الذي لم يكن يعرفه الذين راهنوا علي «أندروبوف» أن الرجل كان علي وشك الموت - هو أيضاً - بفشل كامل في الكلي.
وبعد «أندروبوف» وصل إلي القمة في الكرملين «تشيرننكو»، لكن بقاءه علي تلك القمة لم يدم أكثر من سنة، ثم سار به موكب جنائزي إلي قبر في جدران الكرملين. وكان ذلك موسم جنازات الزعماء في الاتحاد السوفيتي، وكانت له بالتأكيد آثاره، ولعل مواكب الجنازات ذاتها كانت انعكاساً لأحوال الداخل السوفيتي، وانعكاساً لمستوي القمم في الكرملين. وكذلك وقفت عجلة المصادفات عند رجال من مستوي «بوريس يلتسين»، و«ميخائيل جورباتشوف»، وعلي أيديهما جاءت نهاية الدولة السوفيتية!
نوفمبر 2003
نوفمبر 1982:
سيادة الرئيس
لا أستطيع أن أعبر لكم عن شعوري بالتعاطف معكم، مع إحساس ينبع من العقل والقلب والضمير معاً، بأن الظروف وضعت علي أكتافكم أعباءً ثقالاً. والأصعب - يا سيادة الرئيس - خصوصاً وأنني لا أري أيدي أو أفكاراً تساعد بفعلٍ أو قولٍ، وإنما أري بالعكس أن الساحة مزدحمة علي الآخر برجال البارحة يحاربون معارك البارحة وبأسلحة البارحة، ناسين جميعاً أن اليوم شمس جديدة وغداً عالم مختلف.
معظمهم - معظمنا - أقولها بصيغة الجماعة لا مجرد الجمع حتي تشملني أنا الآخر معهم - لانزال نعيش الماضي، رهائن لأحلامه وأوهامه، لانتصاراته وصدماته، لعداواته وصداقاته. ولعله ارتباط الناس بما عاشوه، أو لعله حنينهم إلي ما ألفوه، أو ربما لأن المتغيرات التي أصابت دنيانا كانت من القوة والعمق بحيث وقفنا أمامها حياري عاجزين. ثم كان سبيلنا الوحيد إلي الراحة والطمأنينة أن نستدير عائدين - أو هاربين - إلي حيث كنا، غافلين أن ما كان لم يعد حيث كان، ولم يعد كما كان، بل لعله لم يكن هناك من الأصل!
..........
وضروراتكم - يا سيادة الرئيس - مسألة أخري، أشد اختلافاً وأكثر تعقيداً، فاليوم شاغلكم، والغد مسؤوليتكم، وفي ذلك كفاية، وأكثر من الكفاية!
ولعلي ألخص صورة ما يواجهكم كما يلي:
1. لديكم في داخل مصر أوضاع ليس فيها ما يدعو إلي تهنئتكم بها (شرحت بعض ذلك من قبل).
2. وأمامكم في العالم العربي أحوال ليس فيها ما يحسدكم عليه أحد (أشرت إلي طرف من ذلك فيما سبق).
3. حولكم في المحيط الدولي أهوال ليس فيها ما يغري بالطمأنينة!
وإذا تذكرنا أن الوضع الدولي، وموازين القوي المؤثرة عليه، والمناخ السائد في أجوائه - واحد من المتغيرات الأساسية، التي يجب أن يأخذها كل طرف في حسابه، حين يمارس دوره في مجتمع الدول - إذن فإن علينا أن نتأمل ما حولنا بدقة وعناية.
وإذا تذكرنا أن العصر الحديث بوسائله، استطاع تحويل الكرة الأرضية كلها إلي قرية صغيرة تعيش حياة واحدة - نفس الأزمات تلاحقنا - نفس الأخبار تشدنا - نفس الرجال يطاردوننا - نفس الكتب - نفس الأفلام - بل نفس الألعاب، (فقد كان هناك في الصيف الماضي - مثلاً - ألف مليون إنسان في كل أرجاء المعمورة يتابعون في نفس اللحظة عن طريق الأقمار الصناعية مباريات كأس العالم في كرة القدم، وكانوا جميعاً في نفس اللحظة مشغولين بنفس اللاعبين، ونفس الأهداف، ونفس الملعب في إسبانيا) - إذا تذكرنا ذلك كله، فإننا مطالبون بأكثر من مجرد تأمل ما حولنا، مطالبون أكثر من ذلك بأقصي درجات التنبه والحذر.
***
سيادة الرئيس
لا أبالغ إذا قلت إن الموقف الدولي خطير، بل لعلنا الآن في أخطر موقف منذ انتهت الحرب العالمية الثانية:
* من ناحية، لأن العالم الآن بقرب توتر سياسي وعسكري ظاهر.
* ومن ناحية أخري، لأن العالم الآن بقرب احتمال انهيار اقتصادي واجتماعي قادم.
والواقع أن الناحيتين - السياسية العسكرية من جانب والاقتصادية الاجتماعية من جانب آخر - هما وجهان لعملة واحدة.
وبإذنكم أشرح ما أريد قوله، لكي تكون وجهة نظري كاملة أمامكم.
إن المشكلة في متابعة السياسة الدولية - يا سيادة الرئيس - أن أزمات بعينها تستولي علي اهتمامنا واحدة بعد الأخري، وبذلك فإننا ننشغل بتفاصيل الأمور عن كلياتها، ونصبح كمن تلفت نظره الجزر التي تبرز وسط نهر كبير، ناسياً أن الجزر مجرد ظواهر في حياة النهر الكبير. وفي الغرب تشبيه شائع يحذر من ظواهر الأمور، لأنها تصبح كمثل الشجرة، تحجب الغابة الكبيرة وراءها.
وإذا أردنا في السياسة الدولية أن نري النهر وليس الجزيرة التي تبرز وسط مجراه، وأن نري الغابة وليس مجرد الشجرة - فإن علينا أن ننسي الظواهر - الأزمات لبعض الوقت، وأن نعيد استرجاع الخط الرئيسي لمجري الصراع الكبير الذي يحكم هذا العصر الذي نعيش فيه، وهذا الزمان الذي نمارس أدوارنا في إطاره.
***
ومع أن هناك اتصالاً في مراحل التاريخ، إلا أننا نستطيع القول - يا سيادة الرئيس - بأن الحرب العالمية الثانية كانت نقطة تحول بارزة، لأنه عندما انتهت معاركها بالهزيمة الساحقة للنازية، والاستنزاف الشديد لقوي الإمبراطوريات الأوروبية التقليدية - وبالذات بريطانيا وفرنسا - ظهر نظام عالمي جديد تسنده قواعد غير أوروبية لأول مرة منذ قرون طويلة.
كان النظام الجديد يستند من ناحية علي الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ناحية أخري علي الاتحاد السوفيتي.
غرب أمريكي له آفاقه وله نجومه السابحة في فلكه، وشرق سوفيتي له - هو الآخر - آفاقه وله نجومه السابحة في فلكه، وكلاهما ليس بالضبط أوروبياً (علي عكس ما كان سابقاً).
وبتأثير الانتصار الكبير علي النازية، فإن الغرب والشرق تصورا إمكانية شراكة من نوع ما بينهما لتركيب وضبط نظام عالمي آمن، تكون الأمم المتحدة واجهته، ويكون ميثاقها قانونه.
لكن تأثير الانتصار الكبير ما لبث أن شحب، ولاحت بوادر التناقضات بين قوتين عظميين، لكل منهما عقيدة اجتماعية تؤمن بها، وكان ذلك مكمن الفتنة.
وكانت الأمم المتحدة (واجهة بناء)، وأما البناء نفسه - فقد كان ميثاقها «القانوني» - ولم تكن صياغته قد اكتملت بعد عندما ألقت الولايات المتحدة قنبلتها الذرية موجهة علي اليابان مباشرة - وإلي غير اليابان بالإشارة. وبرغم أن صياغة الميثاق كانت قد اكتملت، فإن النظام الجديد وجد نفسه مرغماً علي وضع الميثاق والقانون علي الدرجة الثانية بعد حقائق القوة النووية المستجدة، وكان ذلك علي حافة الهاوية أحياناً. ومن بداية الخمسينيات احتدم التسابق إلي تصنيع وتخزين الأسلحة النووية بين الاثنين، وكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي يتصور أن التفوق ممكن، بما يعنيه ذلك من قدرة أحدهما علي السبق بضربة مميتة، تجهز علي خصمه وتترك الدنيا كلها مجالاً مفتوحاً لسيطرته.
ثم اكتشف الطرفان أن الحرب النووية مستحيلة، لأن كل واحد منهما عنده من المخزون ما يكفي لتدمير الآخر، وراح الطرفان يحاولان استعادة ما كان بينهما، ويجربان الرجوع إلي روح انتصارهما المشترك علي النازية، وبالتالي تفادي الخطر بدرجة من التعاون قد تصل يوماً إلي درجة من الوفاق.
وساعد علي ذلك الانضباط في بداية الخمسينيات عنصران:
العنصر الأول: اختفاء «جوزيف ستالين» الزعيم الروسي العنيد، وظهور قيادة سوفيتية جديدة في الكرملين، استشعرت أن شعوبها تستحق ما هو أفضل بعد تضحياتها الهائلة في الحرب العالمية الثانية.
والعنصر الثاني: أن جيل الزعماء الذين كانوا يحكمون الغرب كانوا لا يزالون من ذلك الجيل، الذي عرف أهوال الحرب التقليدية لأنه خاض معاركها.
وكان الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت - قائد معسكر الغرب - الجنرال «دوايت أيزنهاور» القائد العام لقوات الحلفاء في الحرب ضد «هتلر».
وكان الحكام الجدد في الكرملين من نفس الجيل («فورشيلوف» رئيس الدولة - «بولجانين» رئيس الوزراء - و«خروشوف» السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفيتي، وكان معهم «جوكوف» ماريشال الاتحاد السوفيتي الأشهر!).
هكذا جاء مؤتمر جنيف سنة 1955.
أتاحت لي الظروف أن أتابعه بنفسي - يا سيادة الرئيس - ورأيت مشاهده بعيني، وتابعت وقائع ما دار فيه علي الطبيعة.
كان المؤتمر بالاسم قمة رباعية (الولايات المتحدة يمثلها «أيزنهاور - والاتحاد السوفيتي يمثله «بولجانين» - وبريطانيا يمثلها «إيدن» - وفرنسا يمثلها «إدجار فور») - لكن الحقيقة الكبيرة في جنيف، أن المؤتمر كان ثنائياً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، والباقين مجرد شهود خفَّ تأثيرهم بمقدار ما خفَّت قوتهم.
بل إن حقائق الأمور فرضت نفسها أكثر من ذلك، فقد اكتشف الأمريكيون أن النجم الصاعد في موسكو هو «خروشوف» - فإذا الحوار مباشر بين «أيزنهاور» و«خروشوف»، وإذا الوسيط بين الاثنين هو الماريشال «جوكوف»، الذي كان قائد الجبهة الشرقية عندما كان «أيزنهاور» قائداً للجبهة الغربية.
وساد ما أطلق عليه في ذلك الوقت وصف «روح جنيف»، وكان الأمل - أو كان الظن - أن النظام الدولي الجديد أعيد تدعيمه واستعيدت ضوابط حركته.
* * *
في ذلك الوقت - يا سيادة الرئيس - كان هناك عامل جديد يظهر علي الساحة الدولية، بعيداً عن أوروبا وأزمة الزمن الأوروبي، وبعيداً عن «روح جنيف»، وعلي أي حال فإنه لم يكن طرفاً فيها، وكان هذا العامل الجديد هو حركة التحرر الوطني التي لعبت مصر فيها دوراً قيادياً بارزاً من أواسط الخمسينيات وحتي أواخر الستينيات.
كانت هذه الحركة تضم شعوباً خلصت نفسها حديثاً من قيود التبعية والاستعمار، وراودتها آمال كبري في الحرية والتقدم، ولأنها وجدت نفسها خارج النظام الدولي، فقد اعتبرت أنها لم تكن مقيدة بضوابطه، ثم إنه لم يكن هناك قيد نووي علي حريتها في الحركة، كذلك فإن هذه الدول راحت تطلب مراجعة النظام الدولي القائم.
ولفتت حركة هذه الدول أنظار الكبار.
كانت الخطوط التي جري الإقرار بها كلها في أوروبا - ولكن هذه الخطوط لاتزال بعد في حالة سيولة بالنسبة للعالم الثالث، وبدأت حركة التحرر الوطني فيه تحت شعارات «باندونج» أولا - ثم في بلجراد والقاهرة ثانياً تحت شعارات «عدم الانحياز».
بمعني أن الانضباط تحقق إلي حد ما علي الخطوط التي تم إقرارها في أوروبا.
ولكن الفرص لاتزال سانحة عند حالة سيولة الخطوط في آسيا وأفريقيا (والشرق الأوسط جسر اللقاء بين القارتين).
وأقبل بعض الكبار علي الفرص السانحة.
وفي تلك الأيام، لم يكن لدي الولايات المتحدة الأمريكية كثير تعطيه للشعوب والبلدان الجديدة الداخلة حديثاً إلي الساحة الدولية، لأن تلك الدول مضت تعيش مرحلة الثورة الوطنية (تناضل من بقايا الاستعمار، وتتلمس طريقاً إلي التنمية المستقلة، ولم يكن ذلك مرضياً للولايات المتحدة وهي وريث القوي الأوروبية).
وفي تلك الأيام، كان لدي الاتحاد السوفيتي شيء يعطيه لهذه الشعوب والدول متمثلاً في (سلاح يساعد علي الخلاص من بقايا الاستعمار، ومشروعات صناعية وزراعية تغري طموح شعوب ودول يمكن أن تكون صديقة، ويمكن لصداقتها أن تساعد علي تنشيط تجارة الاتحاد السوفيتي وعلي نشر شعور بالمودة نحوه).
وكانت القيادة الجديدة في موسكو خبيرة بمشاكل الأمن الأوروبي، ولكن العالم الثالث تبدي أمامها عالماً مجهولاً، لاحت فيه آمال كبري في مناطق لم تتحدد بعد خطوطها.
وكانت أزمة السويس، وحرب السويس بعدها علامة مهمة علي الطريق، بل إنها كانت بداية طريق وصل فيه الاتحاد السوفيتي طويلاً وبعيداً في الشرق الأوسط ووراءه إلي أعماق أفريقيا وآسيا.
وبدا أنه يكسب، ويتقدم، في تلك المناطق السائلة.
* * *
إن الولايات المتحدة - بالطبع - رأت الخطر وقدرته، ولعلها بالغت في رؤيته وتقديره، فمن وجهة نظرها كانت الصورة كما يلي:
1- إن الاتحاد السوفيتي يتقدم بسرعة في مناطق تصعب السيطرة عليها لاتساعها من ناحية، ولقوة التيارات المؤثرة فيها من ناحية أخري (تيارات معاداة الاستعمار، والأخذ بالتخطيط طريقاً للتنمية - إلي آخره).
2 ـ إن مواجهة هذا التقدم بالتهديد النووي الأمريكي مستحيلة، كما أن مواجهته بالحرب المسلحة يضع الولايات المتحدة أمام مخاطر التدخل العسكري في بلاد بعيدة ـ وعلي الشواطئ الآسيوية والأفريقية ـ وهذا نزيف لا يمكن احتماله (كانت حرب كوريا درسا، ثم تكرر الدرس بعد ذلك، بطريقة أقسي وأمَرّ ـ في فيتنام).
3 ـ إن مكانة الاتحاد السوفيتي تتزايد حول مناطق تملك الولايات المتحدة وحلفاؤها فيها مصالح هائلة، وصحيح أن الاتحاد السوفيتي كان يحاذر قبل الاقتراب من هذه المصالح (كبترول العالم العربي مثلاً) ـ لكن الأمور لا يمكن تركها لحذر الاتحاد السوفيتي تحت قيادته الحالية، أو لمغامراته إذا جاءته يوماً قيادة مستعدة للمخاطرة.
4 ـ إن التقدم السوفيتي يصعب اعتراضه بمواجهة مباشرة مع الاتحاد السوفيتي نفسه، فقد كانت موسكو مستعدة في أي وقت أن تشير إلي الأطراف المحليين في الفوران الآسيوي الأفريقي، وتقول ببساطة إنها لا تملك عليهم أمراً، وإن هؤلاء يرسمون لأنفسهم سياساتهم، وبالعكس فإنها ـ بالمسؤولية الدولية عن النظام وهي شريكة فيه ـ تحاول أن تقوم بدور العامل الملطف لجموع الرغبات والتطلعات التي حبسها الكبت الاستعماري قروناً طويلة.
وجرَّبت الولايات المتحدة في ذلك الوقت أساليب العمل السري، وفيه محاولات الغزو من الداخل لبعض البلدان التي زاد تأثيرها في أقاليمها إلي درجة تجاوزت حدودها، ومصر علي طليعة تلك البلدان، ولم تنجح محاولات الغزو من الداخل في ذلك الوقت.
وبالتوازي مع ذلك، جربت الولايات المتحدة ـ بواسطة نفس الأساليب ـ أن تنقل المواجهة الساخنة إلي قلب المعسكر الآخر، فكان من ذلك حوادث المجر التي توافقت سنة 1956، مع أزمة السويس، وتدخل الاتحاد السوفيتي بسرعة وبالقوة لضرب المحاولة في المجر، ومع أن الولايات المتحدة استغلت حوادث المجر دعائياً إلي أبعد حد، إلا أن كثيرين أدركوا فيما بعد أنه ليس من حقهم أن يدفعوا الأمور إلي الحافة الحرجة، ثم لا يكون في مقدورهم غير الوقوف عاجزين إزاء ضربة القوة تنقض علي رؤوس الضحايا، ضحايا للتحريض الأمريكي ثم التردد بعده، وضحاياً للقمع السوفيتي بغير تردد.
في ذلك الوقت ـ يا سيادة الرئيس ـ كان هناك تطور مهم يجري في الولايات المتحدة.
وصل إلي القمة ـ إلي البيت الأبيض ـ رجال من ذلك الجيل الذي ولد في القرن العشرين، لم يكن فيه أحد من قادة الحرب العالمية الثانية، وإن كان فيه بعض ضباطها الذين شهدوا من مواقع محدودة عدداً من معاركها.
كان «جون كينيدي» ممثل هذا الجيل، ومع «كينيدي» دخل إلي البيت الأبيض عنصر جديد يدرك أن الحرب أخطر من أن تترك للعسكريين (تعبير رئيس وزراء فرنسا العتيد «كليمنسو»)، ثم إنه كان يدرك أن الحرب ليست صدام الجيوش بالدبابات والطائرات، ولا حتي بالضغط علي أزرار إطلاق الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية.
وكان هذا الجيل قد ناقش إمكانية الحرب النووية، ووجدها مستحيلة تحت كل الظروف.
وقد راودته في بعض اللحظات فكرة ضربة أولي مميتة، لكنه وجد أن وسائل الإخفاء والمفاجأة (مثل الصواريخ المحملة علي الغواصات المتحركة في أعماق المحيطات والبحار) ـ تسمح للطرف الذي يتلقي الضربة الأولي بأن يوجِّه ضربة ثانية يكون لها نفس تأثير الضربة الأولي المميتة، وهكذا فإن الحرب النووية ـ بضربة أولي أو بضربة ثانية ـ سوف تكون انتحاراً علي مستوي أمم عظمي وشعوب سابقة في الحضارة.
وبدأت مصانع التفكير تعمل (وللتفكير هناك مصانع كبري علي شكل مؤسسات للبحث والدرس)، وظهرت ملامح تصورات جديدة معقدة بعض الشيء، لكنها تبدو قادرة.
كانت الملامح الجديدة علي النحو التالي:
1 ـ إن القوة النووية للاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة متعادلة، وليس يهم أن تكون لأيهما ميزة التفوق العددي، إذا كان ما لدي أي منهما قادراً علي توجيه ضربة مميتة إلي الآخر.
لكن الموارد الاقتصادية للاثنين ليست متعادلة لأن الولايات المتحدة أغني، والاتحاد السوفيتي أقل غني، بل إن موارده الحالية لا تكاد تزيد كثيراً عن نصف موارد الولايات المتحدة.
2 ـ إن الاتحاد السوفيتي يقسم موارده علي بندين رئيسيين، وبند ثالث محدود:
أ ـ التنمية الاقتصادية للوفاء بحاجات شعبه، خصوصاً في مجتمع ينادي بالمساواة ويطمح إلي رفاهية الكل.
ب ـ التسليح النووي والتقليدي لكي يستطيع الوقوف أمام الولايات المتحدة.
جـ ـ مساعدة الدول النامية التي تحاول تغيير قواعد النظام الدولي لأنها تبحث لنفسها عن دور فيه.
3 ـ وإذا استطاعت الولايات المتحدة أن ترغم الاتحاد السوفيتي علي تغيير أولوياته بحيث تزيد اعتمادات التسليح عن اعتمادات شعبه، فإنه سوف يكون مضطراً، نتيجة لذلك، إلي أن يسحب الزيادة من البندين «أ» و«ب» (أي من التنمية الداخلية ومن المساعدات الخارجية).
4 ـ إذا تحقق ذلك، فإن الاتحاد السوفيتي لن يصبح ذلك النموذج، الذي تتطلع إليه دول العالم الثالث الجديدة، ثم إنه لن يكون في وضع يسمح له بمساعدتها.
وهكذا فإنه إذا كان التوازن النووي لا يسمح للولايات المتحدة بفرصة، فإن التفوق الاقتصادي الأمريكي قد يعوض، إذ يسمح لها بالتفوق عن طريق إرغام الاتحاد السوفيتي علي تغيير أولوياته.
وطبقاً لهذه السياسة، كان أول ما أعلنه «كينيدي» بعد دخوله إلي البيت الأبيض أنه اكتشف ـ أو ادعي أنه اكتشف ـ أن هناك فجوة في موازين القوي النووية لصالح الاتحاد السوفيتي، وأن «أيزنهاور» ومساعديه أخطأوا في فهم وتقدير حالة التوازن بين الاثنين.
وكذلك بدأ جَرْ الاتحاد السوفيتي جراً إلي سباق سلاح لم يكن يريده، ولم يكن يستطيع في نفس الوقت أن يتخلف فيه.
ولم يكن الهدف الأساسي من السباق ـ لكي لا ننسي ـ تحقيق تفوق أمريكي مطلق، وإنما الهدف الأساسي كان إرغام الاتحاد السوفيتي علي تغيير أولوياته.
إن سباق التسلح ـ من وجهة نظر السياسة الأمريكية ـ لم يكن مجرد لعبة قمار أحمق، ولكنه كان ينطوي علي عوامل أخري يمكن فهمها.
إلي جانب هذا الرهان، كان هناك:
* خوف الولايات المتحدة الحقيقي من طفرة مفاجئة يحصل عليها الاتحاد السوفيتي باكتشاف علمي جديد أو بخطة دقيقة في تكنولوجيا السلاح.
* حرص الولايات المتحدة علي تطوير قاعدتها الصناعية، بالانتقال من عصر الحديد والصلب إلي عصر الذرة والليزر، ومن عصر المناجم وآبار البترول إلي عصر الفضاء والكواكب (أي أن تقوم أبحاث السلاح بدور تسريع تقدم الصناعة).
* تمكين الولايات المتحدة ـ في أسرع وقت وبأقل مخاطر مباشرة ـ من تأكيد السيادة لعقائدها الاجتماعية، وقدرتها علي مساعدة أصدقائها، وحماية مصالحها في كل القارات والمحيطات.
إن الضغط علي أولويات الاتحاد السوفيتي وجرِّه ـ أراد أو لم يرد ـ إلي سباق سلاح باهظ التكاليف، كان في تلك الفترة من أوائل الستينيات محكوماً بعدة عوامل:
أولها: إن الاتحاد السوفيتي ـ بحقائق الجغرافيا ـ دولة برية في آسيا وأوروبا، ولهذا يحتفظ بقوات تقليدية ضخمة في أوروبا الغربية، وكانت هذه القوات التابعة لحلف وارسو أكبر عدداً وعُدَّة من القوات المقابلة لها تحت حلف الأطلنطي.
وثانيها: إن جيلا من الساسة الأوروبيين ممن عاشوا تجربة الحرب العالمية الثانية ـ كانوا هناك علي القمة في أوروبا الغربية، ولقد كان رأيهم ـ وبالذات الرئيس الفرنسي «شارل ديجول» ـ أن الولايات المتحدة تلعب لعبة قمار غير مأمونة، وهي في كل الأحوال خطرة علي أمن أوروبا، إلي جانب أن الاندفاع إلي تكديس السلاح والاستمرار في جهود تطويره ـ قد يخلق ضغوطاً تؤدي في لحظة من اللحظات ـ بحمي القطار، أو بحماقة القوة، أو بخطأ في الحساب ـ إلي استعماله، وتقدم «ويلي برانت» ـ الذي كان يزحف إلي القمة سريعاً في ألمانيا الغربية ـ ليمشي خطوة علي الطريق أبعد من «ديجول»، بادئا سياسة التقارب مع الشرق، وكانت سياسته «نحو الشرق» هي التمهيد فيما بعد لسياسة الوفاق.
وثالثها: إن السلطة في الولايات المتحدة ـ حتي ذلك الوقت ـ كانت في يد ما يُعرف بـ«المؤسسة الشرقية»، وهي مجموعة المصالح المالية والاقتصادية المسيطرة علي الولايات الواقعة في شرق الولايات المتحدة، وهو الشاطئ الأمريكي المطل علي الأطلنطي، والأكثر إحساساً وحساسية من غيره في الولايات المتحدة، بما يجري وبما يؤثر علي أوروبا الغربية، وكانت هذه «المؤسسة الشرقية» هي التي أعطت للولايات المتحدة ـ منذ إنشائها وإلي الستينيات ـ كل رؤسائها الكبار، من «واشنطن» إلي «لنكولن»، ومن «روزفلت» إلي «كينيدي»، أي أن هذه المؤسسة كانت بتربيتها وثقافتها قادرة علي فهم أوروبا ومخاوفها، وقادرة أيضاً علي فهم حقائق الموازين الدولية، ومع رغبتها الشديدة في إرغام الاتحاد السوفيتي علي تغيير أولوياته، والتضييق عليه، وعلي معسكره، وعلي أصدقائه ـ فإنها كانت تفعل ذلك بطريقة مرنة ومحسوبة.
وفي هذا المناخ المواتي، تبدت أسباب الوفاق في النظام الدولي، وكانت ترتكز علي تنافس القوتين الأعظم، بحكم اختلاف العقائد والمصالح، واضطرارهما إلي التعاون، بحكم المخاطر غير المقبولة وغير المحتملة لعواقب أي صدام مسلح بينهما.
ولدواع كثيرة اقتصادية واجتماعية ـ بالدرجة الأولي ـ انتقل مركز الثقل من شرق الولايات المتحدة المطل علي الأطلنطي (وفيه واشنطن ونيويورك) ـ إلي غرب الولايات المتحدة المطل علي المحيط الهادي (وفيه سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس).
وكان الغرب الأمريكي هو موطن الصناعات الجديدة، وهي صناعات المستقبل في الولايات المتحدة، الفضاء والصواريخ والطائرات والإلكترونيات إلي آخره.
وكانت المؤسسة الأمريكية الجديدة أقل إحساساً وحساسية من المؤسسة التقليدية (الشرقية).
وبرز عداء المؤسسة الجديدة عقائديا للاتحاد السوفيتي، وعليه مسحة صليبية، وبدا الوفاق أمامها نوعاً من الهرطقة السياسية، والأفضل والأسلم منه أن يتواصل سباق السلاح، وكان ذلك بالنسبة إلي هذه المؤسسة الصاعدة مصالح إلي جانب كونه عقيدة.
إن هذه المؤسسة (الغربية) وصلت إلي البيت الأبيض عن طريق «لندون جونسون» من كاليفورنيا في الغرب ـ ثم «جيمي كارتر» من جورجيا في الجنوب ـ وأخيراً استقر «رونالد ريجان» (من كاليفورنيا في البيت الأبيض، ممثلاً حقيقياً وسافراً لهذه المؤسسة العقائدية).
بدأت الأمور تأخذ منعرجاً خطيراً مع رئاسة «جونسون»، ثم راحت تتفاقم يوماً بعد يوم.
كان سباق التسلح (إلي جانب تكاليف حرب فيتنام) عبئاً ضخماً، ولم تكن الولايات المتحدة علي استعداد لأن تتحمله وحدها، ولم يكن حلفاؤها في أوروبا علي استعداد للمشاركة فيه طواعية ورضاً، وراحت الولايات المتحدة تقترض ـ ومن في الدنيا لا يقرض الولايات المتحدة؟ (وصل حجم الـ«يورو دولار» الآن إلي تريليون دولار، وهو في واقع الأمر مبلغ ضخم أخذته الولايات المتحدة من العالم، وقدمت بدلاً منه أوراق نقد تملأ أسواقه، كان هذا الاقتراض الإجباري من العالم هو أكبر المخاطر علي النظام الاقتصادي الدولي ـ في رأي عدد من ساسة أوروبا المخضرمين).
وطلبت أمريكا إلي حلفائها أن يصرفوا أكثر علي السلاح، وكان ضغطها شديداً بالذات علي ألمانيا الغربية واليابان، واستسلمت ألمانيا الغربية للضغط الأمريكي، فزادت ميزانيتها العسكرية، لكنها في نفس الوقت راحت تمد جسورها مع الاتحاد السوفيتي، تحاول استعادة روح الوفاق من جديد، وكان «هيلموت شميت» ممثل هذه السياسة.. زيادة ميزانيات التسليح، نعم، ولكن في نفس الوقت مد جسور الوفاق.
وماطلت اليابان متعللة بدستورها، الذي وضعه الاحتلال الأمريكي نيابة عنها، وكانت الولايات المتحدة عنيفة في ضغطها علي اليابان، وحجتها أن اليابان ـ بلاد الشمس المشرقة ـ لا تستطيع الاعتماد إلي الأبد علي القوة العسكرية الأمريكية، تحمي لحسابها طرق مواصلاتها البحرية، وهي شريانها الوحيد للحياة، فمنه تجيء بالمواد الخام، وعليه يُعاد تصدير هذه المواد مصنَّعة إلي أسواق العالم. أكثر من ذلك فإن الولايات المتحدة بدأت تحس أن أوروبا الغربية واليابان تقيم معجزاتها الاقتصادية في حماية القوة الأمريكية، ليس هذا فقط، بل إنها أصبحت منافسا اقتصادياً خطيراً للولايات المتحدة.
وهكذا جاء رفع أسعار البترول.
وعندما انعقد في باريس سنة 1974 (مؤتمر بحث «تدوير فوائض البترول»)، لم يتورع «هنري كيسنجر» ـ وزير خارجية الولايات المتحدة في ذلك الوقت ـ أن يقول لزملائه من وزراء خارجية أوروبا:
«اليوم فقط انتهي مشروع «مارشال» الأمريكي لمساعدة أوروبا، لقد كنتم تأخذون بترولاً رخيصاً كان هو عماد معجزتكم الاقتصادية، والآن جاء وقت سداد الفواتير».
وبرفع أسعار البترول عدة مرات في منتصف السبعينيات، انقلب النظام الاقتصادي والمالي في العالم رأساً علي عقب.
كانت فوائض أموال البترول كلها تجد طريقها إلي الولايات المتحدة الأمريكية (ودائع إجبارية).
وكان ما يصرفه المنتجون منها يذهب معظمه إلي شراء بضائع أمريكية (سلع استهلاكية وأسلحة).
في منطقتنا.. القوة الأمريكية طليقة.. والقوة السوفيتية مقيدة وكفة التوازن قد مالت وهو ما يعطي إسرائيل حرية حركة بلا حدود
24/1/2008
ثم جاءت خطوة رفع الفوائد المصرفية لتحكم الطوق والحصار.
وصل سعر الفائدة علي الدولار في بعض الأوقات إلي أكثر من عشرين في المائة، وبهذا المستوي فإن نقد العالم السائل كله بدأ يتجه إلي الدولار دون حاجة إلي جهود ومخاطر الاستثمار.
كانت الولايات المتحدة تملي أولوياتها علي الجميع:
* كانت تستدين من الآخرين - بصرف النظر عن رضاهم، وبواسطة الـ «يورو دولار» - بما وصل حجمه إلي تريليون دولار، وأدي ذلك - ضمن ما أدي - إلي تضخم رهيب!
* وكانت فوائض أموال البترول - سواء ما يخص أمريكا نفسها وما يخص العرب - رصيدًا مضافًا إلي ما عندها.
* ثم إن رفع سعر الفائدة علي الدولار جعل نقد العالم السائل كله يتدفق علي الولايات المتحدة، دون مراجعة أو تحفظ!
* وبالارتفاع الجنوني في أسعار الفائدة، فإن إمكانيات الاستثمار في المجالات الطبيعية والعادية للتنمية أصبحت مشلولة، وساد كساد أضيف به هَمّ البطالة إلي هَمّ التضخم، ولم تقتصر الهموم علي أوروبا فقط، وإنما وصلت بعض آثاره إلي شطآن الولايات المتحدة نفسها.
والمهم في ذلك كله - من وجهة نظر هذا الحديث - أن الولايات المتحدة أصبحت في وضع يسمح لها، ليس فقط بتسخين حركة سباق السلاح، ولكن بدفعه إلي درجة الغليان.
أتذكر - يا سيادة الرئيس - واحدًا من أبرز ساسة أوروبا الغربية - وأغفل عمدًا ذكر اسمه، حتي لا أتسبب في إحراج له، إذا أنا نشرت علي لسانه دون استئذانه - قال أثناء حوار طويل بيننا، بلهجة فيها من الأسي أكثر من الغضب:
«كنا في أوروبا قد تنفسنا الصعداء عندما وقّعَت الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفيتي (نيكسون وبريچنيف) معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيچية، تصوَّرنا أن هذا الشد والجذب الذي يكاد يصل بنا إلي حافة الجحيم، سوف يهدأ ويمنح أعصابنا إجازة تستريح!
لكن الخطوات الأولي تعثرت، وكان ذلك في الواقع رجوعًا إلي الوراء.
فقد تأكد أن الولايات المتحدة مازالت مصممة علي إرغام الاتحاد السوفيتي علي تغيير أولوياته، وجرّه رغم أنفه إلي سباق للتسلح يقتص بطريقة خرافية من اعتمادات التنمية والرفاهية، حتي يثور الشعب السوفيتي، وتثور شعوب الكتلة السوفيتية، وليكن أن أصدقاءنا في واشنطن مقتنعون بهذه السياسة، التي تحقق بالموارد الاقتصادية ما لم تعد تستطيع تحقيقه مخزونات الأسلحة النووية، ليكن، أليس من حقنا أن نسألهم:
* متي تثور شعوب الاتحاد السوفيتي وشعوب الكتلة الشرقية؟ متي، والنظم هناك عنيفة وقادرة؟
* ماذا سيحدث لنا نحن خلال هذا كله، إذا أصاب الضرر أوروبا الغربية قبل الكتلة السوفيتية؟ يكفي أي إنسان أن يلقي الآن نظرة علي مشكلة البطالة عندنا، المتوسط العام في أوروبا الغربية كلها حوالي 12 في المائة - وما هو الحل؟
* ثم أي ثمن سوف تدفعه الولايات المتحدة نفسها في النهاية، إنهم هناك أغنياء، لكنهم سوف يواجهون الإفلاس أيضًا، وربما ذهب الاتحاد السوفيتي قبلهم، ولكن ماذا يفيدهم إذا كانوا أول أو آخر من يصل إلي الكارثة؟، كلنا سوف نصل إلي الكارثة. من دواعي الأسف أن غِناهم يصوِّر لهم أنهم قادرون علي تفادي الكارثة في الساعة الأخيرة، لكني أشك في ذلك.
* ثم إني أريد أن أسألهم: كيف يكون تصرف القادة السوفييت عندما يرون أن الخطر محدق بهم؟ ومن يضمن لنا أنهم في تلك اللحظة الحاسمة لن يقْدِموا علي المحظور، وليكن ما يكون؟
كانت تلك وساوس واحد من أبرز ساسة أوروبا، ولا أظنه الوحيد بينهم.
وربما زعمت - يا سيادة الرئيس - أن الولايات المتحدة لم تكن بعيدة عن المناورات التي أدت إلي سقوط حكومة «هيلموت شميت» في ألمانيا الغربية، لأن «شميت» كان واحدا من الذين ضاق صبرهم بالسياسات الأمريكية، ولعل يأسه من قدرته وقدرة غيره علي التأثير في هذه السياسات كان - فوق ذلك - واحدًا من أهم دوافعه إلي اعتزال الحياة العامة في ألمانيا الغربية، وإصراره علي الابتعاد كلية!
ولقد كان الاتفاق علي مد أنابيب خطوط الغاز الطبيعي من سيبيريا - في الاتحاد السوفيتي - إلي أوروبا الغربية، هو القشة التي قصمت ظهر البعير.
عارضت أمريكا هذه الصفقة، وفرضت عقوبات علي أطرافها من حلفائها الأقربين.
كان رأيها أن مبيعات الغاز الطبيعي لأوروبا سوف توفر للاتحاد السوفيتي سنويا عشرة بلايين من الدولارات، وهذا من شأنه أن يفتح ثغرة في الطوق، الذي يضيق يومًا بعد يوم.
ثم إن هذا الخط يجعل أوروبا الغربية - بمصالحها - وثيقة الصلة مع الاتحاد السوفيتي، وهذا من شأنه أن ينعكس علي سياسات الأمن، بما يؤدي إلي إعادة النظر في ميزانيات التسليح الأوروبية.
وحين شكا حلفاء أمريكا من ضيقهم بحظر تفرضه عليهم أمريكا، لاشتراكهم - وفق اتفاق تجاري - في تقديم بعض المعدات لخط أنابيب سيبيريا - في حين تقوم هي في نفس الوقت ببيع القمح للسوفييت - كان رد الرئيس «ريجان»:
«نعم، ولكننا بمبيعات القمح لهم نستنزف منهم أموالاً ولا نعطيهم أموالاً، ثم إننا نُظهر أمام جماهيرهم عجز أنظمتهم عن توفير الطعام لهم، ما نفعله نحن داخل نطاق خطتنا، وما يفعله أصدقاؤنا في أوروبا خارج نطاق الخطة»!
ولقد اضطر «ريجان» أخيرًا إلي تراجع تكتيكي برفع الحظر عن الشركات الأوروبية المتعاونة في خط أنابيب غاز سيبيريا.
لكنه تراجع تكتيكي، أما الاستراتيچية التي أملته فهي مازالت هناك!
* * *
سيادة الرئيس..
بصرف النظر عن الخطة الأمريكية، والأسباب والقوي التي فرضتها، والعواقب والآثار التي انتهت إليها، فإن أي مراقب محايد لا يسعه إلا أن يوافق علي أن «الخطة الأمريكية» حققت قدرًا لا بأس به من النجاح، تكاليفه غالية، ومخاطره قاتلة، فضلاً عن أن النتائج علي المدي البعيد غير مؤكدة - لكن الواقع الراهن - كما هو هذه الساعة - يشير بوضوح إلي أن الاتحاد السوفيتي يواجه أزمة كبري.
إن الاتحاد السوفيتي بلد ضخم بموارده المحتملة، كما أن كفاءته في التخطيط لتنمية هذه الموارد يمكن أن تزيد - لكنه يتعرض في تجربته لعملية نزيف مستمر:
1- كان عصر «ستالين» هو عصر بناء الصناعات الثقيلة في الاتحاد السوفيتي، وكانت هذه الصناعات قاعدة راسخة للتقدم، ومع أن التضحيات الإنسانية التي دفعت فيها كانت مروعة، إلا أن القاعدة جري بناؤها بنجاح، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية وأصاب هذه القاعدة دمار ثقيل، إلي جانب التضحيات الإنسانية، لأن تلك الحرب كلفت الاتحاد السوفيتي 22 مليونًا من القتلي، هم بالتأكيد جزء مؤثر من طاقته المنتجة.
2- وحين عاد الاتحاد السوفيتي يعيد بناء قاعدته، ويحقق معدلات نموذجية في النمو، هبت عليه رياح الحرب الباردة، وفي أعقابها عاصفة سباق التسلح - نووي وتقليدي. وكان الاتحاد السوفيتي مازال أسير الشعور القديم الموروث من روسيا القيصرية، وهو الشعور بالعزلة والبُعد عن المركز المشع للحضارة الأوروبية، فقد كان هذا المركز يتحرك طوال قرنين بين «لندن» و«باريس» و«فيينا» و«استانبول»، في حين بدت «موسكو» وكأنها الريف البعيد عن عواصم النور، وحتي في عصور الازدهار الروسي - عصر بطرس الأكبر وكاترين العظيمة - فإن الازدهار الروسي بدا محاولة لا بأس بها من «البندر» لتقليد «المدينة».
3- والواقع أن الاتحاد السوفيتي كان أضعف من منافسيه لأسباب:
- فذلك البلد - للإنصاف - لم يستفد من عصر الاستعمار قديمه أو جديده، وبالتالي فإنه كان يدفع أعباءه بنفسه ولا يملك وسيلة - حتي لو أراد - ليجعل غيره يدفع عنه بعض أعبائه. صحيح أن روسيا القيصرية توسعت بحدودها من جبال الأورال إلي شواطئ المحيط الهادي، لكن ذلك لم يكن استعمارًا بالمعني المتعارف عليه.
وكذلك وجد الاتحاد السوفيتي - حفاظًا علي نطاق أمنه المباشر - أن يساعد دول أوروبا الشرقية حتي تستطيع أن تقف معه أمام هبوب رياح الحرب الباردة.
بل إن الاتحاد السوفيتي وجد نفسه في وضع يفرض عليه مساعدة العالم الثالث الذي تعرَّض لاستعمار الغرب، وتحولت هذه المساعدات إلي عبء إضافي.
والنتيجة أن المواطن السوفيتي الذي كان يحلم بجنة الشيوعية، وجد نفسه محرومًا أكثر من غيره.
وكان محبطًا لهذا المواطن أن يذهب إلي «وارسو» و«بودابست» و«بوخارست» و«صوفيا» و«بلجراد» - فإذا بعض مظاهر الرخاء والرفاهية موجودة هناك بأكثر مما هي موجودة في وطن الشيوعية الأول!
4- إن الاتحاد السوفيتي اضطر فعلاً إلي تغيير أولوياته، وقفز التسليح ليصبح الأولوية الأولي، وإذا كانت الولايات المتحدة تصرف علي التسليح ما متوسطه 300 بليون دولار سنويا - فإن الاتحاد السوفيتي لا يمكن أن يصرف أقل، بلا «يورو دولار»، وبلا «فوائض بترول»، وبلا «سعر فائدة مرتفع علي الروبل»، وكان العبء يكسر الظهر، لكن الشعوب السوفيتية كان عليها أن تتحمل العبء دون أن تظهر عليها علامات التعب أو الضيق، الشكوي أو التمرد.
* * *
إن هذه الأوضاع كلها أحدثت آثارًا خطيرة علي تركيب الاتحاد السوفيتي:
1- لأن الأمن أصبح الأولوية الأولي، فإن الديمقراطية المركزية في الحزب تراجعت لحساب بيروقراطية الحزب وبيروقراطية الدولة.
2- ولأن التسليح أصبح أولوية أولي فإن الاتحاد السوفيتي شهد بروز مجموعة سلطة جديدة علي القمة، كتلك المجموعة التي حذر «أيزنهاور» المجتمع الأمريكي منها في خطاب الوداع الشهير، الذي ألقاه قبل أن يغادر البيت الأبيض، وهي مجموعة التحالف العسكري الصناعي.
بيروقراطية الحزب، زائدًا عليها بيروقراطية صناعة السلاح، وفوق الاثنين بيروقراطية الجيش.
3- إن ذلك أدي إلي جمود محسوس في حركة القمة السوفيتية، وفي استجابتها لمطالب شعبها في الرفاهية وفي الحرية، بدعوي أن أمن الدولة السوفيتية يجب أن يسبق أي كلام عن الرفاهية وعن الحرية. تحوَّلت الوسيلة (الأمن) إلي هدف أصلي، وتحوَّلت الأهداف الأصلية (الرفاهية والحرية) إلي عوامل ثانوية، أو علي الأقل إلي بند ثان علي قائمة الأولويات.
4- إن ذلك توافق مع ظهور جيل جديد في الاتحاد السوفيتي. جيل وعي وازدهر وعيه بعد الحرب العالمية الثانية، وكان من حظه أنه لم يعش قهر المرحلة الستالينية، وخرج هذا الجيل يتأمل ويفكر في أحوال وطنه والعالم، بعيدًا عن القوالب الجامدة القديمة، وبعيدًا عن عقلية الحصار. ولم يكن هذا الجيل شديد الاقتناع بكثير يراه حوله، وكان اقتناعه أقل بالقيادة المتمثلة في المكتب السياسي الذي بدا أمام هذا الجيل - مجموعة من «العواجيز»، متوسط العمر بينهم 70 سنة.
5- وترتب علي ذلك أن الاتحاد السوفيتي - القوة الثورية العظمي في العالم - تحوَّل ليصبح من أكثر الدول محافظة، وأكثرها تخوُّفا من التغيير حتي في الأشخاص.
وعلي سبيل المثال، فقد ظل «بريچنيف» في الزعامة السوفيتية منذ قرب نهاية سنة 1965، حتي قرب نهاية سنة 1982 - أي قرابة ثمانية عشر عامًا، تعاقب أمامه خلالها علي الرئاسة الأمريكية 5 رؤساء أمريكيين: «چونسون» - «نيكسون» - «فورد» - «كارتر» - «ريجان»، كل منهم جاء معه بفريق جديد يحمل أفكارًا متجددة، ويجرِّب سياسات وممارسات مختلفة.
«أندريه جروميكو» - وزير الخارجية - هناك منذ ثلاثين سنة، وليس هناك عقل في الدنيا يظل محتفظًا بحيويته واستعداده لرؤية الجديد إذا هو بقي «محنَّطا في مكانه ثلاثين سنة»!!
من الآثار الخطيرة لهذه الأوضاع كلها أربعة تستدعي اهتمامًا خاصًا:
* إن التجربة السوفيتية فقدت جزءًا من بريقها العالمي، وظهرت بقع الصدأ علي سطحها.
* إن الانقسامات راحت تتسع في العالم الشيوعي، بدأت بيوجوسلافيا، ثم تلتها الصين (كان الخلاف الصيني السوفيتي ذا أبعاد استراتيچية تمس موازين القوي الأعلي).
* إن اتجاه التيار العالمي الواسع بدأ يميل - ولو قليلاً - ناحية اليمين (بقع الصدأ علي سطح التجربة السوفيتية في مقابل الفوران الأمريكي، خصوصًا في مجالات التكنولوچيا وممارسة الحرية السياسية). وحين كان اتجاه التيار العالمي الواسع في الخمسينيات والستينيات يميل إلي اليسار - فإنه منذ منتصف السبعينيات بدأت المؤشرات ترصد اتجاهًا مضادًا إلي اليمين (باستثناء ما يسميه «شميت» «حزام الزيتون» علي الخط الممتد من اليونان إلي إسبانيا. والحقيقة أن هذا الاستثناء يمكن تفسيره بالتشوُّق إلي التغيير أكثر من التشوُّق إلي الاشتراكية).
* إن التجربة السوفيتية كلها بدأت تواجه حركة مراجعة من داخلها، وقد بدأت مراجعة أكثر منها تراجعا، فالإيمان بالأفكار الأساسية باق، ولكن الممارسة تترك مجالاً كبيرًا للتمني. وفي كل الأحوال، فإن الأفكار العظيمة لا يمكن أن تُترك رهينة في أيدي «العواجيز» من أعضاء المكتب السياسي أو من ماريشالات الاتحاد السوفيتي.
* إن الاتحاد السوفيتي - بمجمل هذه الآثار - أصبح مترددًا حيال أي مبادرات جريئة في المجال الدولي، وقد راح يعطي اهتمامه لأقصر الخطوط ويركز عليها: دفاعاته في أوروبا الشرقية، صواريخه الثقيلة، المحيطات والمسالك البحرية المحيطة به: المحيط الهادي - بحر البلطيق - المحيط الهندي.
* * *
وعندما قرر الاتحاد السوفيتي تقصير خطوطه والتزامه بالدفاع، فإن أعداءه أخذوا جانب الهجوم، وكان هجومهم عليه في محورين رئيسيين:
أوروبا الشرقية - والشرق الأوسط.
* في أوروبا الشرقية، كان أعداؤه قد تعلموا درس المجر سنة 1956 (مجرد التحريض علي الإثارة) - ثم تعلموا درس «تشيكوسلوفاكيا» سنة 1968 (الإثارة بقيادة قوة سياسية محلية هي الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي تحت قيادة «دوبتشك»). وكانت بولندا آخر تجاربهم، وهي حتي الآن أنجحها، ولم تكن تجربة بولندا هي الأشد إثارة فقط، ولم تكن حيوية قيادة سياسية ناشئة فحسب، وإنما كانت حركة شعبية عند القواعد، والقواعد العمالية بالذات.
وليس هناك شك في أنه كانت هناك جهود من الخارج لمساندة وتشجيع حركة التضامن، التي قادها «فاليسا»، وعلي سبيل المثال فإن تقريرًا بتاريخ 18 يونيو 1981 - وهو من أوراق بنك «أمبروزياني» الإيطالي - يقول إن مبلغ 12 مليون دولار حُوِّل إلي نقابات العمال في «بولندا» بطريق غير مباشر، وذلك بأوامر من الفاتيكان (البابا يوحنا بولس الثاني بولندي). وبالقياس علي ذلك، فلابد أن هناك مبالغ أخري غير هذا المبلغ، الذي انكشف أمره بالصدفة، بسبب التحقيقات التي جرت بعد موت - أو اغتيال - مدير هذا البنك «روبرتو كالفي» (كانت هناك بالفعل مبالغ أخري تصل إلي حركة التضامن عن طريق اتحادات العمال في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وهناك ما يشير إلي أن هذه المبالغ جاءت في الأصل من مصادر مشبوهة).
لكننا إذا قطعنا علي هذا النحو بأن هناك جهودًا من الخارج ساعدت وشجعت الحركة المعادية للسوفيت في «بولندا» - فإن علينا أن نقول في نفس الوقت إن حركة التضامن تقوم علي أساس، له فعله الذاتي.
إن أي أموال في الدنيا لا تستطيع أن تفتعل حركة رفض علي هذا النطاق الذي شهدته «بولندا».
هناك تشجيع من الخارج - مالي ودعائي - نعم.
ولكن هناك أيضًا دواعي حقيقية دفعت إلي التمرد في «بولندا».
ولابد أن نسأل: من الذي تمرد في «بولندا»؟ - تمرَّد العمال علي حزب الطبقة العاملة، وتلك ظاهرة لا يمكن لأحد - مهما حسن ظنه - أن يتجاهل معناها.
كانت صفحة ما حدث في «المجر» سنة 1956، وفي «تشيكوسلوفاكيا» سنة 1968، قد نُسيت، لكن الصفحة في «بولندا» فتحت وعلي نحو محرج ومزعج.
* * *
في الشرق الأوسط كان الهجوم علي الاتحاد السوفيتي ضاريا، ولابد أن نسلم أيضًا أنه كان ناجحًا.
كانت الحركة العالمية نحو اليمين أكثر بروزًا وظهورًا في الشرق الأوسط عن غيره من المناطق، لثلاثة أسباب بارزة:
* الأول: إن القيادة في العام العربي فترة السبعينيات انتقلت من الثورة إلي الثروة، وذلك بسبب أهمية البترول وضخامة فوائضه، والثروة بالطبيعة يمين - أقصي اليمين - خصوصًا إذا كانت ملكيتها قبلية.
* الثاني: إن الولايات المتحدة تملك في الشرق الأوسط ما لم يتَح لها في منطقة أخري من العالم غيره، وأوله رجل بوليس محلي يملك قوة غير محدودة علي الردع والضرب والإرهاب - أعني إسرائيل بالطبع.
* الثالث: إن المنطقة كانت مهيأة للتراجع عن مجموعة القيم التي سادت الخمسينيات والستينيات، لأن أموال البترول مضت تجري بغير حدود، ساحبة وراءها أنماطًا جديدة من الاستهلاك، تفتح الشهية لأنواع وألوان من السلع لا نهاية لها.
حدث هذا كله في الوقت الذي كان الاتحاد السوفيتي فيه يقصر خطوطه، ويلزم موقف الدفاع، وحدث في الوقت الذي وصل فيه الهجوم الأمريكي إلي ذروته، معززًا بقوة إسرائيل طليعة له، تفتح الطرق وتزيح ما عليها من معالم الأرض وكتل البشر.
* * *
سيادة الرئيس..
إن الفرصة أتيحت لي أن ألتقي قبل أسابيع قليلة - في عاصمة أوروبية - بمسؤول سوفيتي كبير - عضو في اللجنة المركزية، وواحد من المهتمين فيها بأمور الشرق الأوسط، كان غريبًا أن أسمعه يقول لي:
«لابد أن تزور موسكو في أقرب فرصة تستطيعها، تعال، وتستطيع أن تقابل بعض الكبار هناك لتحدثهم عن الشرق الأوسط، إنهم لم يعودوا راغبين في سماع شيء عن منطقتكم، يشعرون أنهم أحرقوا فيها أصابعهم، لهم الحق، لم يلق الاتحاد السوفيتي في أي مكان في العالم ما لقيه في الشرق الأوسط».
وراح يعدد الأسباب والتفاصيل:
- لم تقتربوا منا إلا وكانت لكم مطالب ملحَّة، والمطالب تتزايد باستمرار.
نحن لا نمل من تكرار ما حدث لنا في «أفغانستان». «أفغانستان» بلد ملاصق لجمهورياتنا في الجنوب، والدنيا كلها، تعرف أننا لا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي أمام أي شيء يحدث في «أفغانستان».
كان في «أفغانستان» نظام ملكي، وكنا نساعده بخمسين مليون دولار كل سنة.
قامت جمهورية بعد الملكية، وجاءوا إلينا يقولون: «نحن نظام أكثر تقدمًا»، ورفعنا مساعداتنا لهم إلي 150 مليون دولار.
ثم قامت ثورة تقدمية، وارتفعت مساعداتنا لهم إلي 500 مليون دولار.
كل هذا والولايات المتحدة تلعب علي حدودنا.. وتحاول التدخل في شؤون «أفغانستان» الداخلية، وهي تعلم أن ذلك خطر، فليست هناك قوة عظمي تسمح لقوة عظمي أخري بأن تلعب علي حدودها، وتدخلنا في «أفغانستان» وتدخلنا هناك يكلفنا 2000 مليون دولار كل سنة.
ولا أحد يعترف لنا بدور أو يقدر ظروفنا.
خذ ما حدث في مصر، ساعدناها علي بناء مجمعات الحديد والصلب والألومنيوم وترسانات بناء السفن والسد العالي، وكله إلي جانب السلاح، قد حاربتم به في النهاية ووصلتم إلي نتائج لا بأس بها، أخرجتم الخبراء السوفيت، وسميتم العملية طردا، ولم يكن هناك ضرر من الاستغناء عن خدماتهم بهدوء ودون طرد!
وكنا نحاول مساعدتكم في المفاوضات من أجل حل سلمي، وكان قولكم لنا أنكم لا تستطيعون التفاوض مباشرة مع إسرائيل، ولا تستطيعون قبول مناطق منزوعة السلاح، ولا تتنازلون عن شبر من الأراضي العربية، معنا لم تتنازلوا عن أي ورقة ومع الأمريكيين تنازلتم عن كل الأوراق، ولو أنكم أعطيتمونا واحدا علي عشرة من التنازلات التي تركتموها للولايات المتحدة، لحصلتم علي حل مشرف أفضل مئات المرات من ذلك الذي حصلتم عليه.
كان الرئيس «السادات» يرفض التفاوض مباشرة مع إسرائيل في كل حديث له معنا، وفجأة وجدناه يهبط بطائرته في القدس!
خذ ـ بعد الرئيس «السادات» ـ خذ ما فعله «نميري» و«سياد بري».
لم تفكروا يوما في استثمار سنت واحد من أموال البترول في الكتلة السوفيتية، في حين أن أوروبا الغربية تستثمر!ـ ولعلها تستثمر من أموال عربية لديها!
عندما بدأت أزمة لبنان جاءنا قادة فلسطينيون يسألون عن رد فعل الاتحاد السوفيتي، ورد عليهم سفيرنا هناك «سولداتوف» قائلاً:
«إن رد الفعل السوفيتي سيكون بمقياس رد الفعل العربي».
أنت تعرف ماذا كان رد الفعل عندكم، وهل كان في استطاعتنا أن نكون عربا أكثر من العرب؟
ثم خذها مني، مصر هي العنصر الأساسي في العالم العربي، فإذا ناصبتنا مصر العداء، فما الذي يبقي هناك ليحرص عليه أحد في موسكو؟!
إن وزير خارجيتنا «أندريه جروميكو» قابل أخيرا عددا من الوفود العربية، وكان حديثهم إليه في إحدي المرات يحمل نبرة عتاب أو لوما مبطنا، علي أساس أن الاتحاد السوفيتي لم يقم بما انتظروه منه، وقال لهم «جروميكو»:
«أرجوكم أن تعرفوا أن رقعة الشطرنج العربية لم تعد عليها حجارة كافية، بل الحقيقة أن اللعبة انتهت عندما أكلوا الملك في مصر»!
إن الاتحاد السوفيتي آثر أن ينسحب مؤقتا من المنطقة، احترقت أصابعه فيها، وهو الآن يفضل أن ينتظر تفاعلات التاريخ، لكنه ليس علي استعداد لاستباقها.
لقد أصغيت إلي ما كنت أسمع باهتمام، وكان فيما سمعت كثير من الحق، كان فيه أيضا من المعاني ما لم يفصح عن نفسه بالكلمات وحتي إذا توارت المعاني فإن الحقائق يصعب إخفاؤها.
وأولي الحقائق أن الاتحاد السوفيتي، لا يمكن أن ينسحب من منطقة تقع مباشرة إلي جواره، وحتي بصرف النظر عن الجوار الجغرافي، فالمنطقة قلب الدنيا وبؤرة الصراع، ويصعب علي الاتحاد السوفيتي أن ينسحب منها، وإذا فعل، فهي فترة تراجع تكتيكي في انتظار تقدم استراتيجي عندما تسنح الظروف.
وفي كل الأحوال فإن الاتحاد السوفيتي ـ كواحد من القوتين الأعظم ـ موجود وجودا فعليا في كل بقعة من الأرض. أقماره ـ علي الأقل ـ ترصد كل حركة وتسمع كل همسة.
وأظن أن المقصود بالانسحاب السوفيتي في الفترة القادمة من أمور الشرق الأوسط هو تقصير الخطوط ـ أيضا ـ في الاتصال بحكومات هذه المرحلة التي شخصها المحللون السوفيت نهائيا، علي أنها مرحلة «البورجوازية الصغيرة»، وهي أقرب إلي الغرب مما تظن، وحتي إذا ظنت أن اقترابها من الغرب مؤقت ومرحلي.
ومعني ذلك ـ في المرحلة القادمة ـ أن الاتحاد السوفيتي سوف يولي اهتماما ـ في تعامله مع المنطقة ـ بالأحزاب الشيوعية التي طال تجنبه لها، مؤثرا عليها حكومات حركة الثورة الوطنية التي بدت له ـ في مرحلة من المراحل ـ أكثر فاعلية وأصدق تمثيلا لشعوبها.
............
ولقد جاءت الآن علي القمة السوفيتية قيادة جديدة، ولا أعتقد أن هذه القيادة الجديدة سوف تحدث انقلابا في سياسة الاتحاد السوفيتي، وإن كان مؤكدا أنها ستضع بصمات أصابعها علي تحركات السياسة السوفيتية المقبلة.
وإذا جاز لي أن أتصور ـ وقد أتاحت لي ظروف سابقة أن أقابل «أندربوف» الزعيم السوفيتي الجديد، وأدخل معه في مناقشات طويلة، حضر الرئيس السادات واحدة منها، وكانت من عجائب المصادفات عن حرية الصحافة ـ فإني أستطيع القول بما يلي:
* إن «أندربوف» هو نموذج حقيقي للقوة الفاعلة في الاتحاد السوفيتي: تحالف الحزب، وجهاز الدولة، والقوات المسلحة.
* إنه لم يكن رجل مباحث أو مخابرات، كما تحاول أجهزة الإعلام في الغرب تصويره، وإنما كان مسؤول الأمن القومي في الحزب والدولة، بمثل ما كان «هنري كيسنجر» ـ علي سبيل المثال ـ في رئاسة لجنة الأربعين في البيت الأبيض أيام «نيكسون»، وذلك أعطي «أندربوف» صورة أكثر شمولا وتفصيلا عن أحوال العالم وأوضاعه، بل وشخصياته.
* إنه سوف يحاول تجديد شباب الحزب والحكومة والقوات المسلحة، فهذه هي المؤسسات التي يعرفها ويعرف دورها، ثم إن دوره هو مرتبط بها.
* إنه سوف يعطي أسبقية أولي للعالم الشيوعي ولَمّ شتاته: الصين أولا، ثم بقية بلدان دول أوروبا الشرقية، وسوف يكون أسلوبه مزيجا من القوة والمرونة.
* إن صلة الاتحاد السوفيتي، بالأحزاب الشيوعية الأخري في أوروبا الغربية والعالم الثالث، سوف تشهد محاولة تنشيط واعتماد متبادل، تكون لها آثارها علي سياسات الاتحاد السوفيتي الخارجية.
ولقد كانت السنوات الأخيرة من حكم «بريجنيف» سنوات تردد في الاتحاد السوفيتي، لأن عملية الانتقال بدأت فعلا، ولكن الظروف التي أحاطت بعملية الانتقال ـ صراعات ومناورات وتوازنات ـ فرضت علي القرار السوفيتي بطئاً لا شك فيه، وتحسسا لكل الاتجاهات، حتي يصدر القرار بإجماع هذه الاتجاهات ـ الأمر الذي أفقد السياسة السوفيتية ميزة المبادرة والجرأة.
ولست أقول إن «أندربوف» يمكن أن يقود الاتحاد السوفيتي إلي صدام، لكني أقول إن قيادته قد تنهي فترة كان الاتحاد السوفيتي يتصرف فيها من موقف رد الفعل دون الفعل.
ولقد بدا لي «أندربوف» في المرات التي لقيته فيها رجلا حاد الذكاء، واسع الاطلاع ليس فقط علي مجري الحوادث وإنما ـ وهذا أهم ـ علي اتجاهات الأفكار في العالم، وقد بدت لي فيه ميزة ملحوظة، هي استعداده لأن يسمع، سمعني في إحدي المناقشات قرابة نصف ساعة دون أن يقاطع ولو بحرف واحد، ولم يشرد طوال حديثي لحظة واحدة، وحين تكلم فقد لاحظت أنه تعرض لكل نقطة أثرتها. واعترف ـ علي استحياء ـ أنني توقعت في كتابي عن العرب والسوفيت، وقد صدر منذ خمس سنوات، أن «أندربوف» هو الذي سيخلف «ريجنيف». ويومها كان غيري من المراقبين يضعون رهانهم كله علي «كريلنكو» أو «تشيرننكو» ـ لكن «أندربوف» بدا لي الأقرب إلي مفاتيح القوة، لأنه بدا لي الأقرب إلي مفاتيح العصر.
ولعل ذلك الفهم لمفاتيح القوة ولمفاتيح العصر هو الذي مكن «أندربوف» من أسرع انتقال للسلطة في الاتحاد السوفيتي بعد وفاة «برجنيف» ومن أسرع مبادرة بعد السلطة وهي البدء بالصين.
ونحن بعد مازلنا في اللحظات الأولي من عهد يدخل بكل ما يحمله معه إلي وضع عالمي بالغ الدقة والحرج.
* * *
سيادة الرئيس..
ما هو مؤدي هذا كله، كله في خاتمة المطاف؟
مؤداه أن المحيط الدولي من حولكم معبأ.
من ناحية ـ فإن العالم يقترب من توتر عقائدي وسياسي وعسكري عنيف يمكن أن ينزل به في أي لحظة إلي الهاوية.
ومن ناحية أخري، فإن هذا العالم يقترب من احتمال زلزال اقتصادي اجتماعي، تتربص نتائجه بالجميع، لا تستثني أحدا.
وفي منطقتنا، فإن القوة الأمريكية طليقة والقوة السوفيتية مقيدة، أي أن التوازن ـ وإن كان مرهقا ـ قد مالت كفته بما يعطي لإسرائيل حرية في الحركة ليست لها حدود.
وفي الوقت نفسه، فإن الأزمة الاقتصادية العالمية ـ وعواقبها الاجتماعية ـ تفعل بالفقراء أكثر مما تفعل بغيرهم.
هكذا فإن دفة سياستنا الخارجية لم تكن في يوم من الأيام تحتاج إلي ما تحتاج إليه اليوم من يد حازمة تمسك بها، وتوجه سيرها وسط الضباب المتلاطم.
(أعترف أنني لست متحمسا لبعض ممارساتنا في السياسة الخارجية).
لست متحمسا ـ علي سبيل المثال ـ لاشتراكنا في اللقاءات السنوية لمجموعة الفرانكوفون ـ المستعمرات الفرنسية السابقة ـ ليس هناك مكاننا.
ولست متحمساً لمعاهدة وقعناها مع السلفادور ـ ما دخلنا نحن بمثل هذه النظم الإرهابية في أمريكا اللاتينية؟
ولست متحمسا لاعترافنا الدبلوماسي بشيء اسمه «فرسان مالطة»!
لست متحمسا لشيء من هذا، ولكني متحمس ـ يا سيادة الرئيس ـ لكم، لأني متحمس لوطني، وفي هذه اللحظة فإني أربط بينكما، بين مصير وطن وقدر رجل. ومع أن ذلك خطر، إلا أن الظروف تواجهنا أحيانا بما لا نستطيع تجاهله.
وأول ما يواجهنا الآن هو أن نجاحكم ونجاح مصر ـ في هذه اللحظة بالتحديد ـ قضية واحدة، وإذ ندعو الله أن يحفظكم وأن يوفقكم، فإن الدعاء في نفس الوقت لمصر.
24/1/2008
كان هدف المقال الخامس مقاربة موازين القوي الدولية، خصوصاً في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وكانت تمر بمرحلة حرجة.
وكان توازن القوي الدولية بالنسبة لمصر مسألة حيوية، علي الأقل حتي تتمكن مرة أخري من إعادة حساباتها وتقديراتها لنظام دولي جديد، وتبين أمامها ملامح عصر مختلف لاحت بوادره فعلاً من خلال ضباب الحرب الباردة الذي زادت كثافته قبل لحظة النهاية لسببين:
أولهما: سياسة الرئيس الأمريكي «رونالد ريجان» التي لخصها في وصفه للاتحاد السوفيتي بأنه «إمبراطورية الشر»، ورفع درجة حمي سباق السلاح، بما سمي وقتها «حرب النجوم».
والثاني: نهاية عصر الجمود العظيم - عشرين سنة - في الاتحاد السوفيتي تحت سلطة «ليونيد بريجنيف» (واثنين من رفاقه علي القمة، هما رئيس وزرائه «كوسيجين» ورئيس الدولة «بادجورني»)، وكانت تلك القيادة عجوزاً تأخرت في الموت، دون أن تكون قادرة علي الحياة! ولاحت بارقة نبض بعد وفاة «بريجنيف» ومجيء «أندروبوف» بعده، وهو رجل لديه ملكات القيادة، وقد اعترف له بها كل الأطراف، كما امتلك وسائل في الكفاءة، وقد وفرتها له قيادته لجهاز المخابرات الشهير «K.G.B» سنوات طويلة، لكن الذي لم يكن يعرفه الذين راهنوا علي «أندروبوف» أن الرجل كان علي وشك الموت - هو أيضاً - بفشل كامل في الكلي.
وبعد «أندروبوف» وصل إلي القمة في الكرملين «تشيرننكو»، لكن بقاءه علي تلك القمة لم يدم أكثر من سنة، ثم سار به موكب جنائزي إلي قبر في جدران الكرملين. وكان ذلك موسم جنازات الزعماء في الاتحاد السوفيتي، وكانت له بالتأكيد آثاره، ولعل مواكب الجنازات ذاتها كانت انعكاساً لأحوال الداخل السوفيتي، وانعكاساً لمستوي القمم في الكرملين. وكذلك وقفت عجلة المصادفات عند رجال من مستوي «بوريس يلتسين»، و«ميخائيل جورباتشوف»، وعلي أيديهما جاءت نهاية الدولة السوفيتية!
نوفمبر 2003
نوفمبر 1982:
سيادة الرئيس
لا أستطيع أن أعبر لكم عن شعوري بالتعاطف معكم، مع إحساس ينبع من العقل والقلب والضمير معاً، بأن الظروف وضعت علي أكتافكم أعباءً ثقالاً. والأصعب - يا سيادة الرئيس - خصوصاً وأنني لا أري أيدي أو أفكاراً تساعد بفعلٍ أو قولٍ، وإنما أري بالعكس أن الساحة مزدحمة علي الآخر برجال البارحة يحاربون معارك البارحة وبأسلحة البارحة، ناسين جميعاً أن اليوم شمس جديدة وغداً عالم مختلف.
معظمهم - معظمنا - أقولها بصيغة الجماعة لا مجرد الجمع حتي تشملني أنا الآخر معهم - لانزال نعيش الماضي، رهائن لأحلامه وأوهامه، لانتصاراته وصدماته، لعداواته وصداقاته. ولعله ارتباط الناس بما عاشوه، أو لعله حنينهم إلي ما ألفوه، أو ربما لأن المتغيرات التي أصابت دنيانا كانت من القوة والعمق بحيث وقفنا أمامها حياري عاجزين. ثم كان سبيلنا الوحيد إلي الراحة والطمأنينة أن نستدير عائدين - أو هاربين - إلي حيث كنا، غافلين أن ما كان لم يعد حيث كان، ولم يعد كما كان، بل لعله لم يكن هناك من الأصل!
..........
وضروراتكم - يا سيادة الرئيس - مسألة أخري، أشد اختلافاً وأكثر تعقيداً، فاليوم شاغلكم، والغد مسؤوليتكم، وفي ذلك كفاية، وأكثر من الكفاية!
ولعلي ألخص صورة ما يواجهكم كما يلي:
1. لديكم في داخل مصر أوضاع ليس فيها ما يدعو إلي تهنئتكم بها (شرحت بعض ذلك من قبل).
2. وأمامكم في العالم العربي أحوال ليس فيها ما يحسدكم عليه أحد (أشرت إلي طرف من ذلك فيما سبق).
3. حولكم في المحيط الدولي أهوال ليس فيها ما يغري بالطمأنينة!
وإذا تذكرنا أن الوضع الدولي، وموازين القوي المؤثرة عليه، والمناخ السائد في أجوائه - واحد من المتغيرات الأساسية، التي يجب أن يأخذها كل طرف في حسابه، حين يمارس دوره في مجتمع الدول - إذن فإن علينا أن نتأمل ما حولنا بدقة وعناية.
وإذا تذكرنا أن العصر الحديث بوسائله، استطاع تحويل الكرة الأرضية كلها إلي قرية صغيرة تعيش حياة واحدة - نفس الأزمات تلاحقنا - نفس الأخبار تشدنا - نفس الرجال يطاردوننا - نفس الكتب - نفس الأفلام - بل نفس الألعاب، (فقد كان هناك في الصيف الماضي - مثلاً - ألف مليون إنسان في كل أرجاء المعمورة يتابعون في نفس اللحظة عن طريق الأقمار الصناعية مباريات كأس العالم في كرة القدم، وكانوا جميعاً في نفس اللحظة مشغولين بنفس اللاعبين، ونفس الأهداف، ونفس الملعب في إسبانيا) - إذا تذكرنا ذلك كله، فإننا مطالبون بأكثر من مجرد تأمل ما حولنا، مطالبون أكثر من ذلك بأقصي درجات التنبه والحذر.
***
سيادة الرئيس
لا أبالغ إذا قلت إن الموقف الدولي خطير، بل لعلنا الآن في أخطر موقف منذ انتهت الحرب العالمية الثانية:
* من ناحية، لأن العالم الآن بقرب توتر سياسي وعسكري ظاهر.
* ومن ناحية أخري، لأن العالم الآن بقرب احتمال انهيار اقتصادي واجتماعي قادم.
والواقع أن الناحيتين - السياسية العسكرية من جانب والاقتصادية الاجتماعية من جانب آخر - هما وجهان لعملة واحدة.
وبإذنكم أشرح ما أريد قوله، لكي تكون وجهة نظري كاملة أمامكم.
إن المشكلة في متابعة السياسة الدولية - يا سيادة الرئيس - أن أزمات بعينها تستولي علي اهتمامنا واحدة بعد الأخري، وبذلك فإننا ننشغل بتفاصيل الأمور عن كلياتها، ونصبح كمن تلفت نظره الجزر التي تبرز وسط نهر كبير، ناسياً أن الجزر مجرد ظواهر في حياة النهر الكبير. وفي الغرب تشبيه شائع يحذر من ظواهر الأمور، لأنها تصبح كمثل الشجرة، تحجب الغابة الكبيرة وراءها.
وإذا أردنا في السياسة الدولية أن نري النهر وليس الجزيرة التي تبرز وسط مجراه، وأن نري الغابة وليس مجرد الشجرة - فإن علينا أن ننسي الظواهر - الأزمات لبعض الوقت، وأن نعيد استرجاع الخط الرئيسي لمجري الصراع الكبير الذي يحكم هذا العصر الذي نعيش فيه، وهذا الزمان الذي نمارس أدوارنا في إطاره.
***
ومع أن هناك اتصالاً في مراحل التاريخ، إلا أننا نستطيع القول - يا سيادة الرئيس - بأن الحرب العالمية الثانية كانت نقطة تحول بارزة، لأنه عندما انتهت معاركها بالهزيمة الساحقة للنازية، والاستنزاف الشديد لقوي الإمبراطوريات الأوروبية التقليدية - وبالذات بريطانيا وفرنسا - ظهر نظام عالمي جديد تسنده قواعد غير أوروبية لأول مرة منذ قرون طويلة.
كان النظام الجديد يستند من ناحية علي الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ناحية أخري علي الاتحاد السوفيتي.
غرب أمريكي له آفاقه وله نجومه السابحة في فلكه، وشرق سوفيتي له - هو الآخر - آفاقه وله نجومه السابحة في فلكه، وكلاهما ليس بالضبط أوروبياً (علي عكس ما كان سابقاً).
وبتأثير الانتصار الكبير علي النازية، فإن الغرب والشرق تصورا إمكانية شراكة من نوع ما بينهما لتركيب وضبط نظام عالمي آمن، تكون الأمم المتحدة واجهته، ويكون ميثاقها قانونه.
لكن تأثير الانتصار الكبير ما لبث أن شحب، ولاحت بوادر التناقضات بين قوتين عظميين، لكل منهما عقيدة اجتماعية تؤمن بها، وكان ذلك مكمن الفتنة.
وكانت الأمم المتحدة (واجهة بناء)، وأما البناء نفسه - فقد كان ميثاقها «القانوني» - ولم تكن صياغته قد اكتملت بعد عندما ألقت الولايات المتحدة قنبلتها الذرية موجهة علي اليابان مباشرة - وإلي غير اليابان بالإشارة. وبرغم أن صياغة الميثاق كانت قد اكتملت، فإن النظام الجديد وجد نفسه مرغماً علي وضع الميثاق والقانون علي الدرجة الثانية بعد حقائق القوة النووية المستجدة، وكان ذلك علي حافة الهاوية أحياناً. ومن بداية الخمسينيات احتدم التسابق إلي تصنيع وتخزين الأسلحة النووية بين الاثنين، وكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي يتصور أن التفوق ممكن، بما يعنيه ذلك من قدرة أحدهما علي السبق بضربة مميتة، تجهز علي خصمه وتترك الدنيا كلها مجالاً مفتوحاً لسيطرته.
ثم اكتشف الطرفان أن الحرب النووية مستحيلة، لأن كل واحد منهما عنده من المخزون ما يكفي لتدمير الآخر، وراح الطرفان يحاولان استعادة ما كان بينهما، ويجربان الرجوع إلي روح انتصارهما المشترك علي النازية، وبالتالي تفادي الخطر بدرجة من التعاون قد تصل يوماً إلي درجة من الوفاق.
وساعد علي ذلك الانضباط في بداية الخمسينيات عنصران:
العنصر الأول: اختفاء «جوزيف ستالين» الزعيم الروسي العنيد، وظهور قيادة سوفيتية جديدة في الكرملين، استشعرت أن شعوبها تستحق ما هو أفضل بعد تضحياتها الهائلة في الحرب العالمية الثانية.
والعنصر الثاني: أن جيل الزعماء الذين كانوا يحكمون الغرب كانوا لا يزالون من ذلك الجيل، الذي عرف أهوال الحرب التقليدية لأنه خاض معاركها.
وكان الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت - قائد معسكر الغرب - الجنرال «دوايت أيزنهاور» القائد العام لقوات الحلفاء في الحرب ضد «هتلر».
وكان الحكام الجدد في الكرملين من نفس الجيل («فورشيلوف» رئيس الدولة - «بولجانين» رئيس الوزراء - و«خروشوف» السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفيتي، وكان معهم «جوكوف» ماريشال الاتحاد السوفيتي الأشهر!).
هكذا جاء مؤتمر جنيف سنة 1955.
أتاحت لي الظروف أن أتابعه بنفسي - يا سيادة الرئيس - ورأيت مشاهده بعيني، وتابعت وقائع ما دار فيه علي الطبيعة.
كان المؤتمر بالاسم قمة رباعية (الولايات المتحدة يمثلها «أيزنهاور - والاتحاد السوفيتي يمثله «بولجانين» - وبريطانيا يمثلها «إيدن» - وفرنسا يمثلها «إدجار فور») - لكن الحقيقة الكبيرة في جنيف، أن المؤتمر كان ثنائياً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، والباقين مجرد شهود خفَّ تأثيرهم بمقدار ما خفَّت قوتهم.
بل إن حقائق الأمور فرضت نفسها أكثر من ذلك، فقد اكتشف الأمريكيون أن النجم الصاعد في موسكو هو «خروشوف» - فإذا الحوار مباشر بين «أيزنهاور» و«خروشوف»، وإذا الوسيط بين الاثنين هو الماريشال «جوكوف»، الذي كان قائد الجبهة الشرقية عندما كان «أيزنهاور» قائداً للجبهة الغربية.
وساد ما أطلق عليه في ذلك الوقت وصف «روح جنيف»، وكان الأمل - أو كان الظن - أن النظام الدولي الجديد أعيد تدعيمه واستعيدت ضوابط حركته.
* * *
في ذلك الوقت - يا سيادة الرئيس - كان هناك عامل جديد يظهر علي الساحة الدولية، بعيداً عن أوروبا وأزمة الزمن الأوروبي، وبعيداً عن «روح جنيف»، وعلي أي حال فإنه لم يكن طرفاً فيها، وكان هذا العامل الجديد هو حركة التحرر الوطني التي لعبت مصر فيها دوراً قيادياً بارزاً من أواسط الخمسينيات وحتي أواخر الستينيات.
كانت هذه الحركة تضم شعوباً خلصت نفسها حديثاً من قيود التبعية والاستعمار، وراودتها آمال كبري في الحرية والتقدم، ولأنها وجدت نفسها خارج النظام الدولي، فقد اعتبرت أنها لم تكن مقيدة بضوابطه، ثم إنه لم يكن هناك قيد نووي علي حريتها في الحركة، كذلك فإن هذه الدول راحت تطلب مراجعة النظام الدولي القائم.
ولفتت حركة هذه الدول أنظار الكبار.
كانت الخطوط التي جري الإقرار بها كلها في أوروبا - ولكن هذه الخطوط لاتزال بعد في حالة سيولة بالنسبة للعالم الثالث، وبدأت حركة التحرر الوطني فيه تحت شعارات «باندونج» أولا - ثم في بلجراد والقاهرة ثانياً تحت شعارات «عدم الانحياز».
بمعني أن الانضباط تحقق إلي حد ما علي الخطوط التي تم إقرارها في أوروبا.
ولكن الفرص لاتزال سانحة عند حالة سيولة الخطوط في آسيا وأفريقيا (والشرق الأوسط جسر اللقاء بين القارتين).
وأقبل بعض الكبار علي الفرص السانحة.
وفي تلك الأيام، لم يكن لدي الولايات المتحدة الأمريكية كثير تعطيه للشعوب والبلدان الجديدة الداخلة حديثاً إلي الساحة الدولية، لأن تلك الدول مضت تعيش مرحلة الثورة الوطنية (تناضل من بقايا الاستعمار، وتتلمس طريقاً إلي التنمية المستقلة، ولم يكن ذلك مرضياً للولايات المتحدة وهي وريث القوي الأوروبية).
وفي تلك الأيام، كان لدي الاتحاد السوفيتي شيء يعطيه لهذه الشعوب والدول متمثلاً في (سلاح يساعد علي الخلاص من بقايا الاستعمار، ومشروعات صناعية وزراعية تغري طموح شعوب ودول يمكن أن تكون صديقة، ويمكن لصداقتها أن تساعد علي تنشيط تجارة الاتحاد السوفيتي وعلي نشر شعور بالمودة نحوه).
وكانت القيادة الجديدة في موسكو خبيرة بمشاكل الأمن الأوروبي، ولكن العالم الثالث تبدي أمامها عالماً مجهولاً، لاحت فيه آمال كبري في مناطق لم تتحدد بعد خطوطها.
وكانت أزمة السويس، وحرب السويس بعدها علامة مهمة علي الطريق، بل إنها كانت بداية طريق وصل فيه الاتحاد السوفيتي طويلاً وبعيداً في الشرق الأوسط ووراءه إلي أعماق أفريقيا وآسيا.
وبدا أنه يكسب، ويتقدم، في تلك المناطق السائلة.
* * *
إن الولايات المتحدة - بالطبع - رأت الخطر وقدرته، ولعلها بالغت في رؤيته وتقديره، فمن وجهة نظرها كانت الصورة كما يلي:
1- إن الاتحاد السوفيتي يتقدم بسرعة في مناطق تصعب السيطرة عليها لاتساعها من ناحية، ولقوة التيارات المؤثرة فيها من ناحية أخري (تيارات معاداة الاستعمار، والأخذ بالتخطيط طريقاً للتنمية - إلي آخره).
2 ـ إن مواجهة هذا التقدم بالتهديد النووي الأمريكي مستحيلة، كما أن مواجهته بالحرب المسلحة يضع الولايات المتحدة أمام مخاطر التدخل العسكري في بلاد بعيدة ـ وعلي الشواطئ الآسيوية والأفريقية ـ وهذا نزيف لا يمكن احتماله (كانت حرب كوريا درسا، ثم تكرر الدرس بعد ذلك، بطريقة أقسي وأمَرّ ـ في فيتنام).
3 ـ إن مكانة الاتحاد السوفيتي تتزايد حول مناطق تملك الولايات المتحدة وحلفاؤها فيها مصالح هائلة، وصحيح أن الاتحاد السوفيتي كان يحاذر قبل الاقتراب من هذه المصالح (كبترول العالم العربي مثلاً) ـ لكن الأمور لا يمكن تركها لحذر الاتحاد السوفيتي تحت قيادته الحالية، أو لمغامراته إذا جاءته يوماً قيادة مستعدة للمخاطرة.
4 ـ إن التقدم السوفيتي يصعب اعتراضه بمواجهة مباشرة مع الاتحاد السوفيتي نفسه، فقد كانت موسكو مستعدة في أي وقت أن تشير إلي الأطراف المحليين في الفوران الآسيوي الأفريقي، وتقول ببساطة إنها لا تملك عليهم أمراً، وإن هؤلاء يرسمون لأنفسهم سياساتهم، وبالعكس فإنها ـ بالمسؤولية الدولية عن النظام وهي شريكة فيه ـ تحاول أن تقوم بدور العامل الملطف لجموع الرغبات والتطلعات التي حبسها الكبت الاستعماري قروناً طويلة.
وجرَّبت الولايات المتحدة في ذلك الوقت أساليب العمل السري، وفيه محاولات الغزو من الداخل لبعض البلدان التي زاد تأثيرها في أقاليمها إلي درجة تجاوزت حدودها، ومصر علي طليعة تلك البلدان، ولم تنجح محاولات الغزو من الداخل في ذلك الوقت.
وبالتوازي مع ذلك، جربت الولايات المتحدة ـ بواسطة نفس الأساليب ـ أن تنقل المواجهة الساخنة إلي قلب المعسكر الآخر، فكان من ذلك حوادث المجر التي توافقت سنة 1956، مع أزمة السويس، وتدخل الاتحاد السوفيتي بسرعة وبالقوة لضرب المحاولة في المجر، ومع أن الولايات المتحدة استغلت حوادث المجر دعائياً إلي أبعد حد، إلا أن كثيرين أدركوا فيما بعد أنه ليس من حقهم أن يدفعوا الأمور إلي الحافة الحرجة، ثم لا يكون في مقدورهم غير الوقوف عاجزين إزاء ضربة القوة تنقض علي رؤوس الضحايا، ضحايا للتحريض الأمريكي ثم التردد بعده، وضحاياً للقمع السوفيتي بغير تردد.
في ذلك الوقت ـ يا سيادة الرئيس ـ كان هناك تطور مهم يجري في الولايات المتحدة.
وصل إلي القمة ـ إلي البيت الأبيض ـ رجال من ذلك الجيل الذي ولد في القرن العشرين، لم يكن فيه أحد من قادة الحرب العالمية الثانية، وإن كان فيه بعض ضباطها الذين شهدوا من مواقع محدودة عدداً من معاركها.
كان «جون كينيدي» ممثل هذا الجيل، ومع «كينيدي» دخل إلي البيت الأبيض عنصر جديد يدرك أن الحرب أخطر من أن تترك للعسكريين (تعبير رئيس وزراء فرنسا العتيد «كليمنسو»)، ثم إنه كان يدرك أن الحرب ليست صدام الجيوش بالدبابات والطائرات، ولا حتي بالضغط علي أزرار إطلاق الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية.
وكان هذا الجيل قد ناقش إمكانية الحرب النووية، ووجدها مستحيلة تحت كل الظروف.
وقد راودته في بعض اللحظات فكرة ضربة أولي مميتة، لكنه وجد أن وسائل الإخفاء والمفاجأة (مثل الصواريخ المحملة علي الغواصات المتحركة في أعماق المحيطات والبحار) ـ تسمح للطرف الذي يتلقي الضربة الأولي بأن يوجِّه ضربة ثانية يكون لها نفس تأثير الضربة الأولي المميتة، وهكذا فإن الحرب النووية ـ بضربة أولي أو بضربة ثانية ـ سوف تكون انتحاراً علي مستوي أمم عظمي وشعوب سابقة في الحضارة.
وبدأت مصانع التفكير تعمل (وللتفكير هناك مصانع كبري علي شكل مؤسسات للبحث والدرس)، وظهرت ملامح تصورات جديدة معقدة بعض الشيء، لكنها تبدو قادرة.
كانت الملامح الجديدة علي النحو التالي:
1 ـ إن القوة النووية للاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة متعادلة، وليس يهم أن تكون لأيهما ميزة التفوق العددي، إذا كان ما لدي أي منهما قادراً علي توجيه ضربة مميتة إلي الآخر.
لكن الموارد الاقتصادية للاثنين ليست متعادلة لأن الولايات المتحدة أغني، والاتحاد السوفيتي أقل غني، بل إن موارده الحالية لا تكاد تزيد كثيراً عن نصف موارد الولايات المتحدة.
2 ـ إن الاتحاد السوفيتي يقسم موارده علي بندين رئيسيين، وبند ثالث محدود:
أ ـ التنمية الاقتصادية للوفاء بحاجات شعبه، خصوصاً في مجتمع ينادي بالمساواة ويطمح إلي رفاهية الكل.
ب ـ التسليح النووي والتقليدي لكي يستطيع الوقوف أمام الولايات المتحدة.
جـ ـ مساعدة الدول النامية التي تحاول تغيير قواعد النظام الدولي لأنها تبحث لنفسها عن دور فيه.
3 ـ وإذا استطاعت الولايات المتحدة أن ترغم الاتحاد السوفيتي علي تغيير أولوياته بحيث تزيد اعتمادات التسليح عن اعتمادات شعبه، فإنه سوف يكون مضطراً، نتيجة لذلك، إلي أن يسحب الزيادة من البندين «أ» و«ب» (أي من التنمية الداخلية ومن المساعدات الخارجية).
4 ـ إذا تحقق ذلك، فإن الاتحاد السوفيتي لن يصبح ذلك النموذج، الذي تتطلع إليه دول العالم الثالث الجديدة، ثم إنه لن يكون في وضع يسمح له بمساعدتها.
وهكذا فإنه إذا كان التوازن النووي لا يسمح للولايات المتحدة بفرصة، فإن التفوق الاقتصادي الأمريكي قد يعوض، إذ يسمح لها بالتفوق عن طريق إرغام الاتحاد السوفيتي علي تغيير أولوياته.
وطبقاً لهذه السياسة، كان أول ما أعلنه «كينيدي» بعد دخوله إلي البيت الأبيض أنه اكتشف ـ أو ادعي أنه اكتشف ـ أن هناك فجوة في موازين القوي النووية لصالح الاتحاد السوفيتي، وأن «أيزنهاور» ومساعديه أخطأوا في فهم وتقدير حالة التوازن بين الاثنين.
وكذلك بدأ جَرْ الاتحاد السوفيتي جراً إلي سباق سلاح لم يكن يريده، ولم يكن يستطيع في نفس الوقت أن يتخلف فيه.
ولم يكن الهدف الأساسي من السباق ـ لكي لا ننسي ـ تحقيق تفوق أمريكي مطلق، وإنما الهدف الأساسي كان إرغام الاتحاد السوفيتي علي تغيير أولوياته.
إن سباق التسلح ـ من وجهة نظر السياسة الأمريكية ـ لم يكن مجرد لعبة قمار أحمق، ولكنه كان ينطوي علي عوامل أخري يمكن فهمها.
إلي جانب هذا الرهان، كان هناك:
* خوف الولايات المتحدة الحقيقي من طفرة مفاجئة يحصل عليها الاتحاد السوفيتي باكتشاف علمي جديد أو بخطة دقيقة في تكنولوجيا السلاح.
* حرص الولايات المتحدة علي تطوير قاعدتها الصناعية، بالانتقال من عصر الحديد والصلب إلي عصر الذرة والليزر، ومن عصر المناجم وآبار البترول إلي عصر الفضاء والكواكب (أي أن تقوم أبحاث السلاح بدور تسريع تقدم الصناعة).
* تمكين الولايات المتحدة ـ في أسرع وقت وبأقل مخاطر مباشرة ـ من تأكيد السيادة لعقائدها الاجتماعية، وقدرتها علي مساعدة أصدقائها، وحماية مصالحها في كل القارات والمحيطات.
إن الضغط علي أولويات الاتحاد السوفيتي وجرِّه ـ أراد أو لم يرد ـ إلي سباق سلاح باهظ التكاليف، كان في تلك الفترة من أوائل الستينيات محكوماً بعدة عوامل:
أولها: إن الاتحاد السوفيتي ـ بحقائق الجغرافيا ـ دولة برية في آسيا وأوروبا، ولهذا يحتفظ بقوات تقليدية ضخمة في أوروبا الغربية، وكانت هذه القوات التابعة لحلف وارسو أكبر عدداً وعُدَّة من القوات المقابلة لها تحت حلف الأطلنطي.
وثانيها: إن جيلا من الساسة الأوروبيين ممن عاشوا تجربة الحرب العالمية الثانية ـ كانوا هناك علي القمة في أوروبا الغربية، ولقد كان رأيهم ـ وبالذات الرئيس الفرنسي «شارل ديجول» ـ أن الولايات المتحدة تلعب لعبة قمار غير مأمونة، وهي في كل الأحوال خطرة علي أمن أوروبا، إلي جانب أن الاندفاع إلي تكديس السلاح والاستمرار في جهود تطويره ـ قد يخلق ضغوطاً تؤدي في لحظة من اللحظات ـ بحمي القطار، أو بحماقة القوة، أو بخطأ في الحساب ـ إلي استعماله، وتقدم «ويلي برانت» ـ الذي كان يزحف إلي القمة سريعاً في ألمانيا الغربية ـ ليمشي خطوة علي الطريق أبعد من «ديجول»، بادئا سياسة التقارب مع الشرق، وكانت سياسته «نحو الشرق» هي التمهيد فيما بعد لسياسة الوفاق.
وثالثها: إن السلطة في الولايات المتحدة ـ حتي ذلك الوقت ـ كانت في يد ما يُعرف بـ«المؤسسة الشرقية»، وهي مجموعة المصالح المالية والاقتصادية المسيطرة علي الولايات الواقعة في شرق الولايات المتحدة، وهو الشاطئ الأمريكي المطل علي الأطلنطي، والأكثر إحساساً وحساسية من غيره في الولايات المتحدة، بما يجري وبما يؤثر علي أوروبا الغربية، وكانت هذه «المؤسسة الشرقية» هي التي أعطت للولايات المتحدة ـ منذ إنشائها وإلي الستينيات ـ كل رؤسائها الكبار، من «واشنطن» إلي «لنكولن»، ومن «روزفلت» إلي «كينيدي»، أي أن هذه المؤسسة كانت بتربيتها وثقافتها قادرة علي فهم أوروبا ومخاوفها، وقادرة أيضاً علي فهم حقائق الموازين الدولية، ومع رغبتها الشديدة في إرغام الاتحاد السوفيتي علي تغيير أولوياته، والتضييق عليه، وعلي معسكره، وعلي أصدقائه ـ فإنها كانت تفعل ذلك بطريقة مرنة ومحسوبة.
وفي هذا المناخ المواتي، تبدت أسباب الوفاق في النظام الدولي، وكانت ترتكز علي تنافس القوتين الأعظم، بحكم اختلاف العقائد والمصالح، واضطرارهما إلي التعاون، بحكم المخاطر غير المقبولة وغير المحتملة لعواقب أي صدام مسلح بينهما.
ولدواع كثيرة اقتصادية واجتماعية ـ بالدرجة الأولي ـ انتقل مركز الثقل من شرق الولايات المتحدة المطل علي الأطلنطي (وفيه واشنطن ونيويورك) ـ إلي غرب الولايات المتحدة المطل علي المحيط الهادي (وفيه سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس).
وكان الغرب الأمريكي هو موطن الصناعات الجديدة، وهي صناعات المستقبل في الولايات المتحدة، الفضاء والصواريخ والطائرات والإلكترونيات إلي آخره.
وكانت المؤسسة الأمريكية الجديدة أقل إحساساً وحساسية من المؤسسة التقليدية (الشرقية).
وبرز عداء المؤسسة الجديدة عقائديا للاتحاد السوفيتي، وعليه مسحة صليبية، وبدا الوفاق أمامها نوعاً من الهرطقة السياسية، والأفضل والأسلم منه أن يتواصل سباق السلاح، وكان ذلك بالنسبة إلي هذه المؤسسة الصاعدة مصالح إلي جانب كونه عقيدة.
إن هذه المؤسسة (الغربية) وصلت إلي البيت الأبيض عن طريق «لندون جونسون» من كاليفورنيا في الغرب ـ ثم «جيمي كارتر» من جورجيا في الجنوب ـ وأخيراً استقر «رونالد ريجان» (من كاليفورنيا في البيت الأبيض، ممثلاً حقيقياً وسافراً لهذه المؤسسة العقائدية).
بدأت الأمور تأخذ منعرجاً خطيراً مع رئاسة «جونسون»، ثم راحت تتفاقم يوماً بعد يوم.
كان سباق التسلح (إلي جانب تكاليف حرب فيتنام) عبئاً ضخماً، ولم تكن الولايات المتحدة علي استعداد لأن تتحمله وحدها، ولم يكن حلفاؤها في أوروبا علي استعداد للمشاركة فيه طواعية ورضاً، وراحت الولايات المتحدة تقترض ـ ومن في الدنيا لا يقرض الولايات المتحدة؟ (وصل حجم الـ«يورو دولار» الآن إلي تريليون دولار، وهو في واقع الأمر مبلغ ضخم أخذته الولايات المتحدة من العالم، وقدمت بدلاً منه أوراق نقد تملأ أسواقه، كان هذا الاقتراض الإجباري من العالم هو أكبر المخاطر علي النظام الاقتصادي الدولي ـ في رأي عدد من ساسة أوروبا المخضرمين).
وطلبت أمريكا إلي حلفائها أن يصرفوا أكثر علي السلاح، وكان ضغطها شديداً بالذات علي ألمانيا الغربية واليابان، واستسلمت ألمانيا الغربية للضغط الأمريكي، فزادت ميزانيتها العسكرية، لكنها في نفس الوقت راحت تمد جسورها مع الاتحاد السوفيتي، تحاول استعادة روح الوفاق من جديد، وكان «هيلموت شميت» ممثل هذه السياسة.. زيادة ميزانيات التسليح، نعم، ولكن في نفس الوقت مد جسور الوفاق.
وماطلت اليابان متعللة بدستورها، الذي وضعه الاحتلال الأمريكي نيابة عنها، وكانت الولايات المتحدة عنيفة في ضغطها علي اليابان، وحجتها أن اليابان ـ بلاد الشمس المشرقة ـ لا تستطيع الاعتماد إلي الأبد علي القوة العسكرية الأمريكية، تحمي لحسابها طرق مواصلاتها البحرية، وهي شريانها الوحيد للحياة، فمنه تجيء بالمواد الخام، وعليه يُعاد تصدير هذه المواد مصنَّعة إلي أسواق العالم. أكثر من ذلك فإن الولايات المتحدة بدأت تحس أن أوروبا الغربية واليابان تقيم معجزاتها الاقتصادية في حماية القوة الأمريكية، ليس هذا فقط، بل إنها أصبحت منافسا اقتصادياً خطيراً للولايات المتحدة.
وهكذا جاء رفع أسعار البترول.
وعندما انعقد في باريس سنة 1974 (مؤتمر بحث «تدوير فوائض البترول»)، لم يتورع «هنري كيسنجر» ـ وزير خارجية الولايات المتحدة في ذلك الوقت ـ أن يقول لزملائه من وزراء خارجية أوروبا:
«اليوم فقط انتهي مشروع «مارشال» الأمريكي لمساعدة أوروبا، لقد كنتم تأخذون بترولاً رخيصاً كان هو عماد معجزتكم الاقتصادية، والآن جاء وقت سداد الفواتير».
وبرفع أسعار البترول عدة مرات في منتصف السبعينيات، انقلب النظام الاقتصادي والمالي في العالم رأساً علي عقب.
كانت فوائض أموال البترول كلها تجد طريقها إلي الولايات المتحدة الأمريكية (ودائع إجبارية).
وكان ما يصرفه المنتجون منها يذهب معظمه إلي شراء بضائع أمريكية (سلع استهلاكية وأسلحة).
في منطقتنا.. القوة الأمريكية طليقة.. والقوة السوفيتية مقيدة وكفة التوازن قد مالت وهو ما يعطي إسرائيل حرية حركة بلا حدود
24/1/2008
ثم جاءت خطوة رفع الفوائد المصرفية لتحكم الطوق والحصار.
وصل سعر الفائدة علي الدولار في بعض الأوقات إلي أكثر من عشرين في المائة، وبهذا المستوي فإن نقد العالم السائل كله بدأ يتجه إلي الدولار دون حاجة إلي جهود ومخاطر الاستثمار.
كانت الولايات المتحدة تملي أولوياتها علي الجميع:
* كانت تستدين من الآخرين - بصرف النظر عن رضاهم، وبواسطة الـ «يورو دولار» - بما وصل حجمه إلي تريليون دولار، وأدي ذلك - ضمن ما أدي - إلي تضخم رهيب!
* وكانت فوائض أموال البترول - سواء ما يخص أمريكا نفسها وما يخص العرب - رصيدًا مضافًا إلي ما عندها.
* ثم إن رفع سعر الفائدة علي الدولار جعل نقد العالم السائل كله يتدفق علي الولايات المتحدة، دون مراجعة أو تحفظ!
* وبالارتفاع الجنوني في أسعار الفائدة، فإن إمكانيات الاستثمار في المجالات الطبيعية والعادية للتنمية أصبحت مشلولة، وساد كساد أضيف به هَمّ البطالة إلي هَمّ التضخم، ولم تقتصر الهموم علي أوروبا فقط، وإنما وصلت بعض آثاره إلي شطآن الولايات المتحدة نفسها.
والمهم في ذلك كله - من وجهة نظر هذا الحديث - أن الولايات المتحدة أصبحت في وضع يسمح لها، ليس فقط بتسخين حركة سباق السلاح، ولكن بدفعه إلي درجة الغليان.
أتذكر - يا سيادة الرئيس - واحدًا من أبرز ساسة أوروبا الغربية - وأغفل عمدًا ذكر اسمه، حتي لا أتسبب في إحراج له، إذا أنا نشرت علي لسانه دون استئذانه - قال أثناء حوار طويل بيننا، بلهجة فيها من الأسي أكثر من الغضب:
«كنا في أوروبا قد تنفسنا الصعداء عندما وقّعَت الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفيتي (نيكسون وبريچنيف) معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيچية، تصوَّرنا أن هذا الشد والجذب الذي يكاد يصل بنا إلي حافة الجحيم، سوف يهدأ ويمنح أعصابنا إجازة تستريح!
لكن الخطوات الأولي تعثرت، وكان ذلك في الواقع رجوعًا إلي الوراء.
فقد تأكد أن الولايات المتحدة مازالت مصممة علي إرغام الاتحاد السوفيتي علي تغيير أولوياته، وجرّه رغم أنفه إلي سباق للتسلح يقتص بطريقة خرافية من اعتمادات التنمية والرفاهية، حتي يثور الشعب السوفيتي، وتثور شعوب الكتلة السوفيتية، وليكن أن أصدقاءنا في واشنطن مقتنعون بهذه السياسة، التي تحقق بالموارد الاقتصادية ما لم تعد تستطيع تحقيقه مخزونات الأسلحة النووية، ليكن، أليس من حقنا أن نسألهم:
* متي تثور شعوب الاتحاد السوفيتي وشعوب الكتلة الشرقية؟ متي، والنظم هناك عنيفة وقادرة؟
* ماذا سيحدث لنا نحن خلال هذا كله، إذا أصاب الضرر أوروبا الغربية قبل الكتلة السوفيتية؟ يكفي أي إنسان أن يلقي الآن نظرة علي مشكلة البطالة عندنا، المتوسط العام في أوروبا الغربية كلها حوالي 12 في المائة - وما هو الحل؟
* ثم أي ثمن سوف تدفعه الولايات المتحدة نفسها في النهاية، إنهم هناك أغنياء، لكنهم سوف يواجهون الإفلاس أيضًا، وربما ذهب الاتحاد السوفيتي قبلهم، ولكن ماذا يفيدهم إذا كانوا أول أو آخر من يصل إلي الكارثة؟، كلنا سوف نصل إلي الكارثة. من دواعي الأسف أن غِناهم يصوِّر لهم أنهم قادرون علي تفادي الكارثة في الساعة الأخيرة، لكني أشك في ذلك.
* ثم إني أريد أن أسألهم: كيف يكون تصرف القادة السوفييت عندما يرون أن الخطر محدق بهم؟ ومن يضمن لنا أنهم في تلك اللحظة الحاسمة لن يقْدِموا علي المحظور، وليكن ما يكون؟
كانت تلك وساوس واحد من أبرز ساسة أوروبا، ولا أظنه الوحيد بينهم.
وربما زعمت - يا سيادة الرئيس - أن الولايات المتحدة لم تكن بعيدة عن المناورات التي أدت إلي سقوط حكومة «هيلموت شميت» في ألمانيا الغربية، لأن «شميت» كان واحدا من الذين ضاق صبرهم بالسياسات الأمريكية، ولعل يأسه من قدرته وقدرة غيره علي التأثير في هذه السياسات كان - فوق ذلك - واحدًا من أهم دوافعه إلي اعتزال الحياة العامة في ألمانيا الغربية، وإصراره علي الابتعاد كلية!
ولقد كان الاتفاق علي مد أنابيب خطوط الغاز الطبيعي من سيبيريا - في الاتحاد السوفيتي - إلي أوروبا الغربية، هو القشة التي قصمت ظهر البعير.
عارضت أمريكا هذه الصفقة، وفرضت عقوبات علي أطرافها من حلفائها الأقربين.
كان رأيها أن مبيعات الغاز الطبيعي لأوروبا سوف توفر للاتحاد السوفيتي سنويا عشرة بلايين من الدولارات، وهذا من شأنه أن يفتح ثغرة في الطوق، الذي يضيق يومًا بعد يوم.
ثم إن هذا الخط يجعل أوروبا الغربية - بمصالحها - وثيقة الصلة مع الاتحاد السوفيتي، وهذا من شأنه أن ينعكس علي سياسات الأمن، بما يؤدي إلي إعادة النظر في ميزانيات التسليح الأوروبية.
وحين شكا حلفاء أمريكا من ضيقهم بحظر تفرضه عليهم أمريكا، لاشتراكهم - وفق اتفاق تجاري - في تقديم بعض المعدات لخط أنابيب سيبيريا - في حين تقوم هي في نفس الوقت ببيع القمح للسوفييت - كان رد الرئيس «ريجان»:
«نعم، ولكننا بمبيعات القمح لهم نستنزف منهم أموالاً ولا نعطيهم أموالاً، ثم إننا نُظهر أمام جماهيرهم عجز أنظمتهم عن توفير الطعام لهم، ما نفعله نحن داخل نطاق خطتنا، وما يفعله أصدقاؤنا في أوروبا خارج نطاق الخطة»!
ولقد اضطر «ريجان» أخيرًا إلي تراجع تكتيكي برفع الحظر عن الشركات الأوروبية المتعاونة في خط أنابيب غاز سيبيريا.
لكنه تراجع تكتيكي، أما الاستراتيچية التي أملته فهي مازالت هناك!
* * *
سيادة الرئيس..
بصرف النظر عن الخطة الأمريكية، والأسباب والقوي التي فرضتها، والعواقب والآثار التي انتهت إليها، فإن أي مراقب محايد لا يسعه إلا أن يوافق علي أن «الخطة الأمريكية» حققت قدرًا لا بأس به من النجاح، تكاليفه غالية، ومخاطره قاتلة، فضلاً عن أن النتائج علي المدي البعيد غير مؤكدة - لكن الواقع الراهن - كما هو هذه الساعة - يشير بوضوح إلي أن الاتحاد السوفيتي يواجه أزمة كبري.
إن الاتحاد السوفيتي بلد ضخم بموارده المحتملة، كما أن كفاءته في التخطيط لتنمية هذه الموارد يمكن أن تزيد - لكنه يتعرض في تجربته لعملية نزيف مستمر:
1- كان عصر «ستالين» هو عصر بناء الصناعات الثقيلة في الاتحاد السوفيتي، وكانت هذه الصناعات قاعدة راسخة للتقدم، ومع أن التضحيات الإنسانية التي دفعت فيها كانت مروعة، إلا أن القاعدة جري بناؤها بنجاح، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية وأصاب هذه القاعدة دمار ثقيل، إلي جانب التضحيات الإنسانية، لأن تلك الحرب كلفت الاتحاد السوفيتي 22 مليونًا من القتلي، هم بالتأكيد جزء مؤثر من طاقته المنتجة.
2- وحين عاد الاتحاد السوفيتي يعيد بناء قاعدته، ويحقق معدلات نموذجية في النمو، هبت عليه رياح الحرب الباردة، وفي أعقابها عاصفة سباق التسلح - نووي وتقليدي. وكان الاتحاد السوفيتي مازال أسير الشعور القديم الموروث من روسيا القيصرية، وهو الشعور بالعزلة والبُعد عن المركز المشع للحضارة الأوروبية، فقد كان هذا المركز يتحرك طوال قرنين بين «لندن» و«باريس» و«فيينا» و«استانبول»، في حين بدت «موسكو» وكأنها الريف البعيد عن عواصم النور، وحتي في عصور الازدهار الروسي - عصر بطرس الأكبر وكاترين العظيمة - فإن الازدهار الروسي بدا محاولة لا بأس بها من «البندر» لتقليد «المدينة».
3- والواقع أن الاتحاد السوفيتي كان أضعف من منافسيه لأسباب:
- فذلك البلد - للإنصاف - لم يستفد من عصر الاستعمار قديمه أو جديده، وبالتالي فإنه كان يدفع أعباءه بنفسه ولا يملك وسيلة - حتي لو أراد - ليجعل غيره يدفع عنه بعض أعبائه. صحيح أن روسيا القيصرية توسعت بحدودها من جبال الأورال إلي شواطئ المحيط الهادي، لكن ذلك لم يكن استعمارًا بالمعني المتعارف عليه.
وكذلك وجد الاتحاد السوفيتي - حفاظًا علي نطاق أمنه المباشر - أن يساعد دول أوروبا الشرقية حتي تستطيع أن تقف معه أمام هبوب رياح الحرب الباردة.
بل إن الاتحاد السوفيتي وجد نفسه في وضع يفرض عليه مساعدة العالم الثالث الذي تعرَّض لاستعمار الغرب، وتحولت هذه المساعدات إلي عبء إضافي.
والنتيجة أن المواطن السوفيتي الذي كان يحلم بجنة الشيوعية، وجد نفسه محرومًا أكثر من غيره.
وكان محبطًا لهذا المواطن أن يذهب إلي «وارسو» و«بودابست» و«بوخارست» و«صوفيا» و«بلجراد» - فإذا بعض مظاهر الرخاء والرفاهية موجودة هناك بأكثر مما هي موجودة في وطن الشيوعية الأول!
4- إن الاتحاد السوفيتي اضطر فعلاً إلي تغيير أولوياته، وقفز التسليح ليصبح الأولوية الأولي، وإذا كانت الولايات المتحدة تصرف علي التسليح ما متوسطه 300 بليون دولار سنويا - فإن الاتحاد السوفيتي لا يمكن أن يصرف أقل، بلا «يورو دولار»، وبلا «فوائض بترول»، وبلا «سعر فائدة مرتفع علي الروبل»، وكان العبء يكسر الظهر، لكن الشعوب السوفيتية كان عليها أن تتحمل العبء دون أن تظهر عليها علامات التعب أو الضيق، الشكوي أو التمرد.
* * *
إن هذه الأوضاع كلها أحدثت آثارًا خطيرة علي تركيب الاتحاد السوفيتي:
1- لأن الأمن أصبح الأولوية الأولي، فإن الديمقراطية المركزية في الحزب تراجعت لحساب بيروقراطية الحزب وبيروقراطية الدولة.
2- ولأن التسليح أصبح أولوية أولي فإن الاتحاد السوفيتي شهد بروز مجموعة سلطة جديدة علي القمة، كتلك المجموعة التي حذر «أيزنهاور» المجتمع الأمريكي منها في خطاب الوداع الشهير، الذي ألقاه قبل أن يغادر البيت الأبيض، وهي مجموعة التحالف العسكري الصناعي.
بيروقراطية الحزب، زائدًا عليها بيروقراطية صناعة السلاح، وفوق الاثنين بيروقراطية الجيش.
3- إن ذلك أدي إلي جمود محسوس في حركة القمة السوفيتية، وفي استجابتها لمطالب شعبها في الرفاهية وفي الحرية، بدعوي أن أمن الدولة السوفيتية يجب أن يسبق أي كلام عن الرفاهية وعن الحرية. تحوَّلت الوسيلة (الأمن) إلي هدف أصلي، وتحوَّلت الأهداف الأصلية (الرفاهية والحرية) إلي عوامل ثانوية، أو علي الأقل إلي بند ثان علي قائمة الأولويات.
4- إن ذلك توافق مع ظهور جيل جديد في الاتحاد السوفيتي. جيل وعي وازدهر وعيه بعد الحرب العالمية الثانية، وكان من حظه أنه لم يعش قهر المرحلة الستالينية، وخرج هذا الجيل يتأمل ويفكر في أحوال وطنه والعالم، بعيدًا عن القوالب الجامدة القديمة، وبعيدًا عن عقلية الحصار. ولم يكن هذا الجيل شديد الاقتناع بكثير يراه حوله، وكان اقتناعه أقل بالقيادة المتمثلة في المكتب السياسي الذي بدا أمام هذا الجيل - مجموعة من «العواجيز»، متوسط العمر بينهم 70 سنة.
5- وترتب علي ذلك أن الاتحاد السوفيتي - القوة الثورية العظمي في العالم - تحوَّل ليصبح من أكثر الدول محافظة، وأكثرها تخوُّفا من التغيير حتي في الأشخاص.
وعلي سبيل المثال، فقد ظل «بريچنيف» في الزعامة السوفيتية منذ قرب نهاية سنة 1965، حتي قرب نهاية سنة 1982 - أي قرابة ثمانية عشر عامًا، تعاقب أمامه خلالها علي الرئاسة الأمريكية 5 رؤساء أمريكيين: «چونسون» - «نيكسون» - «فورد» - «كارتر» - «ريجان»، كل منهم جاء معه بفريق جديد يحمل أفكارًا متجددة، ويجرِّب سياسات وممارسات مختلفة.
«أندريه جروميكو» - وزير الخارجية - هناك منذ ثلاثين سنة، وليس هناك عقل في الدنيا يظل محتفظًا بحيويته واستعداده لرؤية الجديد إذا هو بقي «محنَّطا في مكانه ثلاثين سنة»!!
من الآثار الخطيرة لهذه الأوضاع كلها أربعة تستدعي اهتمامًا خاصًا:
* إن التجربة السوفيتية فقدت جزءًا من بريقها العالمي، وظهرت بقع الصدأ علي سطحها.
* إن الانقسامات راحت تتسع في العالم الشيوعي، بدأت بيوجوسلافيا، ثم تلتها الصين (كان الخلاف الصيني السوفيتي ذا أبعاد استراتيچية تمس موازين القوي الأعلي).
* إن اتجاه التيار العالمي الواسع بدأ يميل - ولو قليلاً - ناحية اليمين (بقع الصدأ علي سطح التجربة السوفيتية في مقابل الفوران الأمريكي، خصوصًا في مجالات التكنولوچيا وممارسة الحرية السياسية). وحين كان اتجاه التيار العالمي الواسع في الخمسينيات والستينيات يميل إلي اليسار - فإنه منذ منتصف السبعينيات بدأت المؤشرات ترصد اتجاهًا مضادًا إلي اليمين (باستثناء ما يسميه «شميت» «حزام الزيتون» علي الخط الممتد من اليونان إلي إسبانيا. والحقيقة أن هذا الاستثناء يمكن تفسيره بالتشوُّق إلي التغيير أكثر من التشوُّق إلي الاشتراكية).
* إن التجربة السوفيتية كلها بدأت تواجه حركة مراجعة من داخلها، وقد بدأت مراجعة أكثر منها تراجعا، فالإيمان بالأفكار الأساسية باق، ولكن الممارسة تترك مجالاً كبيرًا للتمني. وفي كل الأحوال، فإن الأفكار العظيمة لا يمكن أن تُترك رهينة في أيدي «العواجيز» من أعضاء المكتب السياسي أو من ماريشالات الاتحاد السوفيتي.
* إن الاتحاد السوفيتي - بمجمل هذه الآثار - أصبح مترددًا حيال أي مبادرات جريئة في المجال الدولي، وقد راح يعطي اهتمامه لأقصر الخطوط ويركز عليها: دفاعاته في أوروبا الشرقية، صواريخه الثقيلة، المحيطات والمسالك البحرية المحيطة به: المحيط الهادي - بحر البلطيق - المحيط الهندي.
* * *
وعندما قرر الاتحاد السوفيتي تقصير خطوطه والتزامه بالدفاع، فإن أعداءه أخذوا جانب الهجوم، وكان هجومهم عليه في محورين رئيسيين:
أوروبا الشرقية - والشرق الأوسط.
* في أوروبا الشرقية، كان أعداؤه قد تعلموا درس المجر سنة 1956 (مجرد التحريض علي الإثارة) - ثم تعلموا درس «تشيكوسلوفاكيا» سنة 1968 (الإثارة بقيادة قوة سياسية محلية هي الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي تحت قيادة «دوبتشك»). وكانت بولندا آخر تجاربهم، وهي حتي الآن أنجحها، ولم تكن تجربة بولندا هي الأشد إثارة فقط، ولم تكن حيوية قيادة سياسية ناشئة فحسب، وإنما كانت حركة شعبية عند القواعد، والقواعد العمالية بالذات.
وليس هناك شك في أنه كانت هناك جهود من الخارج لمساندة وتشجيع حركة التضامن، التي قادها «فاليسا»، وعلي سبيل المثال فإن تقريرًا بتاريخ 18 يونيو 1981 - وهو من أوراق بنك «أمبروزياني» الإيطالي - يقول إن مبلغ 12 مليون دولار حُوِّل إلي نقابات العمال في «بولندا» بطريق غير مباشر، وذلك بأوامر من الفاتيكان (البابا يوحنا بولس الثاني بولندي). وبالقياس علي ذلك، فلابد أن هناك مبالغ أخري غير هذا المبلغ، الذي انكشف أمره بالصدفة، بسبب التحقيقات التي جرت بعد موت - أو اغتيال - مدير هذا البنك «روبرتو كالفي» (كانت هناك بالفعل مبالغ أخري تصل إلي حركة التضامن عن طريق اتحادات العمال في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وهناك ما يشير إلي أن هذه المبالغ جاءت في الأصل من مصادر مشبوهة).
لكننا إذا قطعنا علي هذا النحو بأن هناك جهودًا من الخارج ساعدت وشجعت الحركة المعادية للسوفيت في «بولندا» - فإن علينا أن نقول في نفس الوقت إن حركة التضامن تقوم علي أساس، له فعله الذاتي.
إن أي أموال في الدنيا لا تستطيع أن تفتعل حركة رفض علي هذا النطاق الذي شهدته «بولندا».
هناك تشجيع من الخارج - مالي ودعائي - نعم.
ولكن هناك أيضًا دواعي حقيقية دفعت إلي التمرد في «بولندا».
ولابد أن نسأل: من الذي تمرد في «بولندا»؟ - تمرَّد العمال علي حزب الطبقة العاملة، وتلك ظاهرة لا يمكن لأحد - مهما حسن ظنه - أن يتجاهل معناها.
كانت صفحة ما حدث في «المجر» سنة 1956، وفي «تشيكوسلوفاكيا» سنة 1968، قد نُسيت، لكن الصفحة في «بولندا» فتحت وعلي نحو محرج ومزعج.
* * *
في الشرق الأوسط كان الهجوم علي الاتحاد السوفيتي ضاريا، ولابد أن نسلم أيضًا أنه كان ناجحًا.
كانت الحركة العالمية نحو اليمين أكثر بروزًا وظهورًا في الشرق الأوسط عن غيره من المناطق، لثلاثة أسباب بارزة:
* الأول: إن القيادة في العام العربي فترة السبعينيات انتقلت من الثورة إلي الثروة، وذلك بسبب أهمية البترول وضخامة فوائضه، والثروة بالطبيعة يمين - أقصي اليمين - خصوصًا إذا كانت ملكيتها قبلية.
* الثاني: إن الولايات المتحدة تملك في الشرق الأوسط ما لم يتَح لها في منطقة أخري من العالم غيره، وأوله رجل بوليس محلي يملك قوة غير محدودة علي الردع والضرب والإرهاب - أعني إسرائيل بالطبع.
* الثالث: إن المنطقة كانت مهيأة للتراجع عن مجموعة القيم التي سادت الخمسينيات والستينيات، لأن أموال البترول مضت تجري بغير حدود، ساحبة وراءها أنماطًا جديدة من الاستهلاك، تفتح الشهية لأنواع وألوان من السلع لا نهاية لها.
حدث هذا كله في الوقت الذي كان الاتحاد السوفيتي فيه يقصر خطوطه، ويلزم موقف الدفاع، وحدث في الوقت الذي وصل فيه الهجوم الأمريكي إلي ذروته، معززًا بقوة إسرائيل طليعة له، تفتح الطرق وتزيح ما عليها من معالم الأرض وكتل البشر.
* * *
سيادة الرئيس..
إن الفرصة أتيحت لي أن ألتقي قبل أسابيع قليلة - في عاصمة أوروبية - بمسؤول سوفيتي كبير - عضو في اللجنة المركزية، وواحد من المهتمين فيها بأمور الشرق الأوسط، كان غريبًا أن أسمعه يقول لي:
«لابد أن تزور موسكو في أقرب فرصة تستطيعها، تعال، وتستطيع أن تقابل بعض الكبار هناك لتحدثهم عن الشرق الأوسط، إنهم لم يعودوا راغبين في سماع شيء عن منطقتكم، يشعرون أنهم أحرقوا فيها أصابعهم، لهم الحق، لم يلق الاتحاد السوفيتي في أي مكان في العالم ما لقيه في الشرق الأوسط».
وراح يعدد الأسباب والتفاصيل:
- لم تقتربوا منا إلا وكانت لكم مطالب ملحَّة، والمطالب تتزايد باستمرار.
نحن لا نمل من تكرار ما حدث لنا في «أفغانستان». «أفغانستان» بلد ملاصق لجمهورياتنا في الجنوب، والدنيا كلها، تعرف أننا لا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي أمام أي شيء يحدث في «أفغانستان».
كان في «أفغانستان» نظام ملكي، وكنا نساعده بخمسين مليون دولار كل سنة.
قامت جمهورية بعد الملكية، وجاءوا إلينا يقولون: «نحن نظام أكثر تقدمًا»، ورفعنا مساعداتنا لهم إلي 150 مليون دولار.
ثم قامت ثورة تقدمية، وارتفعت مساعداتنا لهم إلي 500 مليون دولار.
كل هذا والولايات المتحدة تلعب علي حدودنا.. وتحاول التدخل في شؤون «أفغانستان» الداخلية، وهي تعلم أن ذلك خطر، فليست هناك قوة عظمي تسمح لقوة عظمي أخري بأن تلعب علي حدودها، وتدخلنا في «أفغانستان» وتدخلنا هناك يكلفنا 2000 مليون دولار كل سنة.
ولا أحد يعترف لنا بدور أو يقدر ظروفنا.
خذ ما حدث في مصر، ساعدناها علي بناء مجمعات الحديد والصلب والألومنيوم وترسانات بناء السفن والسد العالي، وكله إلي جانب السلاح، قد حاربتم به في النهاية ووصلتم إلي نتائج لا بأس بها، أخرجتم الخبراء السوفيت، وسميتم العملية طردا، ولم يكن هناك ضرر من الاستغناء عن خدماتهم بهدوء ودون طرد!
وكنا نحاول مساعدتكم في المفاوضات من أجل حل سلمي، وكان قولكم لنا أنكم لا تستطيعون التفاوض مباشرة مع إسرائيل، ولا تستطيعون قبول مناطق منزوعة السلاح، ولا تتنازلون عن شبر من الأراضي العربية، معنا لم تتنازلوا عن أي ورقة ومع الأمريكيين تنازلتم عن كل الأوراق، ولو أنكم أعطيتمونا واحدا علي عشرة من التنازلات التي تركتموها للولايات المتحدة، لحصلتم علي حل مشرف أفضل مئات المرات من ذلك الذي حصلتم عليه.
كان الرئيس «السادات» يرفض التفاوض مباشرة مع إسرائيل في كل حديث له معنا، وفجأة وجدناه يهبط بطائرته في القدس!
خذ ـ بعد الرئيس «السادات» ـ خذ ما فعله «نميري» و«سياد بري».
لم تفكروا يوما في استثمار سنت واحد من أموال البترول في الكتلة السوفيتية، في حين أن أوروبا الغربية تستثمر!ـ ولعلها تستثمر من أموال عربية لديها!
عندما بدأت أزمة لبنان جاءنا قادة فلسطينيون يسألون عن رد فعل الاتحاد السوفيتي، ورد عليهم سفيرنا هناك «سولداتوف» قائلاً:
«إن رد الفعل السوفيتي سيكون بمقياس رد الفعل العربي».
أنت تعرف ماذا كان رد الفعل عندكم، وهل كان في استطاعتنا أن نكون عربا أكثر من العرب؟
ثم خذها مني، مصر هي العنصر الأساسي في العالم العربي، فإذا ناصبتنا مصر العداء، فما الذي يبقي هناك ليحرص عليه أحد في موسكو؟!
إن وزير خارجيتنا «أندريه جروميكو» قابل أخيرا عددا من الوفود العربية، وكان حديثهم إليه في إحدي المرات يحمل نبرة عتاب أو لوما مبطنا، علي أساس أن الاتحاد السوفيتي لم يقم بما انتظروه منه، وقال لهم «جروميكو»:
«أرجوكم أن تعرفوا أن رقعة الشطرنج العربية لم تعد عليها حجارة كافية، بل الحقيقة أن اللعبة انتهت عندما أكلوا الملك في مصر»!
إن الاتحاد السوفيتي آثر أن ينسحب مؤقتا من المنطقة، احترقت أصابعه فيها، وهو الآن يفضل أن ينتظر تفاعلات التاريخ، لكنه ليس علي استعداد لاستباقها.
لقد أصغيت إلي ما كنت أسمع باهتمام، وكان فيما سمعت كثير من الحق، كان فيه أيضا من المعاني ما لم يفصح عن نفسه بالكلمات وحتي إذا توارت المعاني فإن الحقائق يصعب إخفاؤها.
وأولي الحقائق أن الاتحاد السوفيتي، لا يمكن أن ينسحب من منطقة تقع مباشرة إلي جواره، وحتي بصرف النظر عن الجوار الجغرافي، فالمنطقة قلب الدنيا وبؤرة الصراع، ويصعب علي الاتحاد السوفيتي أن ينسحب منها، وإذا فعل، فهي فترة تراجع تكتيكي في انتظار تقدم استراتيجي عندما تسنح الظروف.
وفي كل الأحوال فإن الاتحاد السوفيتي ـ كواحد من القوتين الأعظم ـ موجود وجودا فعليا في كل بقعة من الأرض. أقماره ـ علي الأقل ـ ترصد كل حركة وتسمع كل همسة.
وأظن أن المقصود بالانسحاب السوفيتي في الفترة القادمة من أمور الشرق الأوسط هو تقصير الخطوط ـ أيضا ـ في الاتصال بحكومات هذه المرحلة التي شخصها المحللون السوفيت نهائيا، علي أنها مرحلة «البورجوازية الصغيرة»، وهي أقرب إلي الغرب مما تظن، وحتي إذا ظنت أن اقترابها من الغرب مؤقت ومرحلي.
ومعني ذلك ـ في المرحلة القادمة ـ أن الاتحاد السوفيتي سوف يولي اهتماما ـ في تعامله مع المنطقة ـ بالأحزاب الشيوعية التي طال تجنبه لها، مؤثرا عليها حكومات حركة الثورة الوطنية التي بدت له ـ في مرحلة من المراحل ـ أكثر فاعلية وأصدق تمثيلا لشعوبها.
............
ولقد جاءت الآن علي القمة السوفيتية قيادة جديدة، ولا أعتقد أن هذه القيادة الجديدة سوف تحدث انقلابا في سياسة الاتحاد السوفيتي، وإن كان مؤكدا أنها ستضع بصمات أصابعها علي تحركات السياسة السوفيتية المقبلة.
وإذا جاز لي أن أتصور ـ وقد أتاحت لي ظروف سابقة أن أقابل «أندربوف» الزعيم السوفيتي الجديد، وأدخل معه في مناقشات طويلة، حضر الرئيس السادات واحدة منها، وكانت من عجائب المصادفات عن حرية الصحافة ـ فإني أستطيع القول بما يلي:
* إن «أندربوف» هو نموذج حقيقي للقوة الفاعلة في الاتحاد السوفيتي: تحالف الحزب، وجهاز الدولة، والقوات المسلحة.
* إنه لم يكن رجل مباحث أو مخابرات، كما تحاول أجهزة الإعلام في الغرب تصويره، وإنما كان مسؤول الأمن القومي في الحزب والدولة، بمثل ما كان «هنري كيسنجر» ـ علي سبيل المثال ـ في رئاسة لجنة الأربعين في البيت الأبيض أيام «نيكسون»، وذلك أعطي «أندربوف» صورة أكثر شمولا وتفصيلا عن أحوال العالم وأوضاعه، بل وشخصياته.
* إنه سوف يحاول تجديد شباب الحزب والحكومة والقوات المسلحة، فهذه هي المؤسسات التي يعرفها ويعرف دورها، ثم إن دوره هو مرتبط بها.
* إنه سوف يعطي أسبقية أولي للعالم الشيوعي ولَمّ شتاته: الصين أولا، ثم بقية بلدان دول أوروبا الشرقية، وسوف يكون أسلوبه مزيجا من القوة والمرونة.
* إن صلة الاتحاد السوفيتي، بالأحزاب الشيوعية الأخري في أوروبا الغربية والعالم الثالث، سوف تشهد محاولة تنشيط واعتماد متبادل، تكون لها آثارها علي سياسات الاتحاد السوفيتي الخارجية.
ولقد كانت السنوات الأخيرة من حكم «بريجنيف» سنوات تردد في الاتحاد السوفيتي، لأن عملية الانتقال بدأت فعلا، ولكن الظروف التي أحاطت بعملية الانتقال ـ صراعات ومناورات وتوازنات ـ فرضت علي القرار السوفيتي بطئاً لا شك فيه، وتحسسا لكل الاتجاهات، حتي يصدر القرار بإجماع هذه الاتجاهات ـ الأمر الذي أفقد السياسة السوفيتية ميزة المبادرة والجرأة.
ولست أقول إن «أندربوف» يمكن أن يقود الاتحاد السوفيتي إلي صدام، لكني أقول إن قيادته قد تنهي فترة كان الاتحاد السوفيتي يتصرف فيها من موقف رد الفعل دون الفعل.
ولقد بدا لي «أندربوف» في المرات التي لقيته فيها رجلا حاد الذكاء، واسع الاطلاع ليس فقط علي مجري الحوادث وإنما ـ وهذا أهم ـ علي اتجاهات الأفكار في العالم، وقد بدت لي فيه ميزة ملحوظة، هي استعداده لأن يسمع، سمعني في إحدي المناقشات قرابة نصف ساعة دون أن يقاطع ولو بحرف واحد، ولم يشرد طوال حديثي لحظة واحدة، وحين تكلم فقد لاحظت أنه تعرض لكل نقطة أثرتها. واعترف ـ علي استحياء ـ أنني توقعت في كتابي عن العرب والسوفيت، وقد صدر منذ خمس سنوات، أن «أندربوف» هو الذي سيخلف «ريجنيف». ويومها كان غيري من المراقبين يضعون رهانهم كله علي «كريلنكو» أو «تشيرننكو» ـ لكن «أندربوف» بدا لي الأقرب إلي مفاتيح القوة، لأنه بدا لي الأقرب إلي مفاتيح العصر.
ولعل ذلك الفهم لمفاتيح القوة ولمفاتيح العصر هو الذي مكن «أندربوف» من أسرع انتقال للسلطة في الاتحاد السوفيتي بعد وفاة «برجنيف» ومن أسرع مبادرة بعد السلطة وهي البدء بالصين.
ونحن بعد مازلنا في اللحظات الأولي من عهد يدخل بكل ما يحمله معه إلي وضع عالمي بالغ الدقة والحرج.
* * *
سيادة الرئيس..
ما هو مؤدي هذا كله، كله في خاتمة المطاف؟
مؤداه أن المحيط الدولي من حولكم معبأ.
من ناحية ـ فإن العالم يقترب من توتر عقائدي وسياسي وعسكري عنيف يمكن أن ينزل به في أي لحظة إلي الهاوية.
ومن ناحية أخري، فإن هذا العالم يقترب من احتمال زلزال اقتصادي اجتماعي، تتربص نتائجه بالجميع، لا تستثني أحدا.
وفي منطقتنا، فإن القوة الأمريكية طليقة والقوة السوفيتية مقيدة، أي أن التوازن ـ وإن كان مرهقا ـ قد مالت كفته بما يعطي لإسرائيل حرية في الحركة ليست لها حدود.
وفي الوقت نفسه، فإن الأزمة الاقتصادية العالمية ـ وعواقبها الاجتماعية ـ تفعل بالفقراء أكثر مما تفعل بغيرهم.
هكذا فإن دفة سياستنا الخارجية لم تكن في يوم من الأيام تحتاج إلي ما تحتاج إليه اليوم من يد حازمة تمسك بها، وتوجه سيرها وسط الضباب المتلاطم.
(أعترف أنني لست متحمسا لبعض ممارساتنا في السياسة الخارجية).
لست متحمسا ـ علي سبيل المثال ـ لاشتراكنا في اللقاءات السنوية لمجموعة الفرانكوفون ـ المستعمرات الفرنسية السابقة ـ ليس هناك مكاننا.
ولست متحمساً لمعاهدة وقعناها مع السلفادور ـ ما دخلنا نحن بمثل هذه النظم الإرهابية في أمريكا اللاتينية؟
ولست متحمسا لاعترافنا الدبلوماسي بشيء اسمه «فرسان مالطة»!
لست متحمسا لشيء من هذا، ولكني متحمس ـ يا سيادة الرئيس ـ لكم، لأني متحمس لوطني، وفي هذه اللحظة فإني أربط بينكما، بين مصير وطن وقدر رجل. ومع أن ذلك خطر، إلا أن الظروف تواجهنا أحيانا بما لا نستطيع تجاهله.
وأول ما يواجهنا الآن هو أن نجاحكم ونجاح مصر ـ في هذه اللحظة بالتحديد ـ قضية واحدة، وإذ ندعو الله أن يحفظكم وأن يوفقكم، فإن الدعاء في نفس الوقت لمصر.